إن تحكيم العدل بين النّاس من أهم أسس استمرار الدّولة واستقرارها وازدهارها تمارس في كنفه السّلطات الثلاث دورها باستقلالية ونزاهة بما يؤدي إلى انتشار الطمأنينة والثّقة بين الحاكم والمحكوم، وينتج مجتمعاً حيويّاً تعدّدياً ديناميكيّاً، لا يكفّ عن البناء والإبداع.
ويبرز دور السلطة القضائيّة في إشاعة العدل بعدم ائتمارها بأوامر جهة أو قوّة ضغط معيّنة وتقيدها بروح النّصوص القانونيّة، والمرجعيّات الدّستوريّة عند نظرها في النّزاعات المطروحة أمامها، فتؤسس بذلك لبناء الدّولة الديمقراطية التي يكون فيها القضاء مستقلا ويقع فيها تحويل العدل من قيمة إنسانيّة مجرّدة إلى واقع معاش بما يساهم في تراجع الجريمة وشيوع الرّقابة الذاتيّة وإحساس المواطن بالمسؤوليّة وإقباله على العمل من أجل مستقبل أفضل للفرد والجماعة.
وبالتالي فإن القضاء المستقل يمثل جسر العبور إلى الازدهار الحضاري مثلما أثبته العلامة التونسي الشهير ولي الدين عبد الرحمان بن محـمد ابن خلدون في «كتاب العبر والمبتدأ والخبر» الذي ألفه منذ أكثر من ستة قرون خلت بمقولتيه الشهيرتين: العدل أساس العمران، والظلم مؤذن بخراب العمران.
وباعتبار نزاهة السلطة القضائية واستقلالها وحيادها تمثل شروطا لازمة أساسية لحماية حقوق الإنسان وحرياتهم ولتنمية الاقتصاد وضمان تحقيق السلم الاجتماعي، بما يستوعبه معناه العام من قيم ومبادئ وقواعد السلوك والقيم الأخلاقية الذي يجب أن يتحلى بها المنتسبون إلى السلطة القضائية، فقد استأثرت هذه القيم بمكانة مميزة في المجتمعات الديمقراطية التي تسعى إلى الرقي بأنظمتها القضائية وفق ما تقتضيه المعايير الدولية وتترجمها على أرض الواقع بتبني المبادئ التي جاءت بها والحلول التي اقترحتها في تشاريعها الوطنية حتى تعتمد كمؤشرات على توفر مقومات الأمن والسلم والاستقرار والازدهار في المجتمعات.
وكرست المواثيق الدولية استقلالية السلطة القضائية من ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بالمادة 10 "لكلِّ إنسان، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، الحقُّ في أن تَنظر قضيتَه محكمةٌ مستقلَّةٌ ومحايدةٌ، نظرًا مُنصفًا وعلنيًّا، للفصل في حقوقه والتزاماته وفى أيَّة تهمة جزائية تُوجَّه إليه". وكذلك المبادئ أساسية بشأن استقلال السلطة القضائية اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة السابع في ديسمبر 1985وتتعلق: بالاستقلالية وبحرية التعبير وتكوين الجمعيات و بالمؤهلات والتدريب (ليشغل الوظائف القضائية أفراد من ذوى النزاهة والكفاءة) وبشروط الخدمة ومدتها (يضمنها القانون للقضاة بشكل مناسب عند المباشرة وحتى في قترة التقاعد تمنح القاضي الأمان، وحصولهم على أجر ملائم،...) وبالسرية والحصانة المهنيتان وبالتأديب والإيقاف والعزل. علاوة على المبادئ التوجيهية في شأن دور أعضاء النيابة العمومية اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة في سبتمبر 1990 التي تمثل اعترافا بالدور الهام الذي يؤديه أعضاء النيابة العمومية في تحقيق محاكمات عادلة، من خلال ضمانات من الواجب توفيرها لأعضاء النيابة العمومية لأداء وظائفهم على الوجه الأكمل، ووجوب اتخاذ الدولة التدابير اللازمة لضمان قدرة أعضاء النيابة العمومية على أداء واجباتهم ومسؤولياتهم المهنية في ظل أوضاع قانونية وتنظيمية ملائمة، وإتاحة الوسائل الملائمة، البشرية والمالية والمادية.
وقد مَثّل إنشاء المجالس القضائية العليا في الديمقراطيات الناشئة التكريس الحقيقي للقطيعة التاريخية مع نظام استبدادي سابق، فقد نجحت المجتمعات في تحقيق فصل حقيقي بين السلط وتكريس التوازن بينها من خلال ارساء هيئات مستقلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، تكفلت بالإشراف على المسارات المهنية للقضاة وادارة القضاء، وأثبتت التجارب المقارنة أن ممارسة القضاة لوظيفتهم القضائية بكل استقلالية عن باقي السلط وبعيدا عن كل التأثيرات، لا تتأتى إلا من خلال المجالس العليا للقضاء، والتي برزت تدريجيا كأداة ضرورية لضمان استقلال السلطة القضائية.
تاريخيا، سجلت الأحكام المتصلة بمنظومة العدالة عموما في الدستور التونسي لسنة 1959 تراجعا في مقومات استقلالية القضاء كسلطة تمثلت أساسا في:
أولا: إفراغ القضاء السلطة من محتواه باعتبار السلطة تفترض عنصرين الاول العلوية أو السمو caractère suprême والثاني السيادة caractère souverain. ويظهر ذلك من خلال عدم إعطاء سلطة القضاء بصفة صريحة للمحاكم، والاكتفاء بالتنصيص صلب الفصل 65 على أن "القضاة مستقلون لا سلطان عليهم لغير القانون". ومجرد الإشارة بالفصل 67 إلى أن الضمانات اللازمة للقضاة من حيث التعيين والترقية والنقلة والتأديب يسهر على تحقيقها مجلس أعلى للقضاء يضبط قانون تركيبته واختصاصاته.
ثانيا: ويهم هذا المظهر التراجع في نظام القاضي. فدستور 1959 تخلى عن الضمانتين الاساسيتين لاستقلالية القاضي اللتين عادة ما تدرجان بالدساتير وهما: عدم قابلية القاضي للعزل وعدم قابلية القاضي للنقلة الا برضاه.
وقد تعزز هذا التراجع من خلال النصوص التشريعية الاجرائية اللاحقة وعلى رأسها القانون الأساسي للقضاة والمجلس الأعلى للقضاء المؤرخ في 14/7/1967، الذي جعل رئيس الجمهورية رئيسا للمجلس الأعلى للقضاء، وجعل أغلبية أعضائه قارين ويسمون بأمر من رئيس الجمهورية، دون حتى ترشيح من المجلس الأعلى للقضاء.
إثر الثورة التونسية في 2011، نادت أغلب القوى الثورية بسلطة قضائية مستقلة وبحل المجلس الأعلى للقضاء لكونه غير شرعي، ولم يواصل نشاطه بعدها، وذلك إلى تاريخ تعويضه بالهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي عملا بالقانون الأساسي عدد 13 لسنة 2013 مؤرخ في 2 ماي 2013 المتعلق بإحداث الهيئة، التي عُوّضت بدورها، تنزيلا للأحكام الدستورية واستكمالا للإنتقال الديمقراطي بالمجلس الأعلى للقضاء بمقتضى القانون الأساسي عدد 34 لسنة 2016 مؤِرخ في 28 أفريل 2016.
وقد تطور الأمر من حديث عن استقلال القضاء، نحو تكريس مفهوم " جودة القضاء". الرهان اليوم هو: ضمان حق المواطن في التقاضي وحقه في المحاكمة العادلة وحقه في احكام قضائية جيدة في أجل معقول، ويظهر المجلس الأعلى للقضاء في هذا الإطار كضامن لهذا الرهان. كما أن مشروعية الأعمال القضائية تستند بالأساس إلى الثقة المشروعة في القضاء وفي سلوك القاضي وأخلاقه وفي سلامة أعماله من كلّ الشوائب.
وتبرز بالتالي استقلالية السلطة القضائية من خلال تكريسها بالنصوص القانونية (جزء أول) وترجمتها على المستوى الواقعي وتنزيلها بطريقة ملموسة (جزء ثان).
الجزء الأولى: التنزيل القانوني لاستقلالية السلطة القضائية
لقد تبنت القوانين الجديدة في تونس الواقع صياغتها بعد الثورة صراحة استقلالية السلطة القضائية. ويحتل الدستور أعلى هرم سلم القوانين ويتضمن المبادئ والمعايير الدولية التي تتبنى استقلالية السلطة القضائية وهو ما نص عليه دستور 27 جانفي 2014(فقرة أولى). وقد مثل التشريع المحدث للمجلس الأعلى للقضاء أولى النصوص القانونية التي نزّلت أحكام الدستور في انتظار القانون الأساسي للقضاة (جزء ثان).
فقرة أولى: تنزيل المعايير الدولية في أحكام الدستور
لقد تعددت النصوص الدولية المكرسة لاستقلالية السلطة القضائية من ذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966 الذي أكد في مادته 14 على ضرورة استقلال القضاء والحياد. وكذلك مجموعة مبادئ الأمم المتحدة بشأن استقلال القضاء لسنة 1985 وصادقت عليها الجمعية العامة بقرارها عدد 40/32 ر وقرارها عدد 40/146 المؤرخين في نوفمبر وديسمبر من نفس السنة باعتبارها تمثل نقطة مرجعية هامة لمساعدة الدول الأعضاء على تأمين استقلال القضاء والنهوض به في إطار تشريعاتها وممارساتها الوطنية، الفصل1 «تكفل الدولة استقلال السلطة القضائية وينص عليه دستور البلد أو قوانينه. ومن واجب جميع المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات احترام ومراعاة استقلال السلطة القضائية».
تُضاف لها مبادئ بانغلور بشأن السلوك القضائي المعتمدة من مجموعة نزاهة القضاء سنة 2002 والتي تبنتها لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة سنة 2003 بموجب قرارها عدد 2003/03 حول "استقلال القضاة والمحلفين والخبراء القضائيين واستقلال المحامين". واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي دخلت حيز النفاذ في سنة 2005، وقد نص الفصل 11 منها على وجوب اتخاذ الدول للإجراءات اللازمة لتدعيم نزاهة القضاة والوقاية من إمكانية ضلوعهم في الفساد دون المساس باستقلاليتهم، وقد أمضت تونس على هذه الاتفاقية سنة 2004 وصادقت عليها سنة 2008. وكذلك الميثاق الأوروبي للقضاة سترازبورغ 8-10 جويلية 1998. علاوة على النظام الكوني للقضاة المؤرخ في 17 نوفمبر 1999(توطئة: تتكون من القواعد العامة الدنيا des normes générales mnimales
• الفصل الأول: إلزام القضاة بتحقيق محاكمة عادلة والدول باحترام استقلالية القضاء،
• الفصل2 ضرورة صياغة قوانين أساسية تضمن الاستقلالية
• الفصل3 القاضي لا سلطان عليه لغير القانون
• الفصل 4 تحجير التعليمات للقضاة إلا من محكمة عليا في نطاق تدارك أخطاء الأحكام
• الفصل 5 حياد القاضي
• الفصل 6 كفاءة القاضي
• الفصل 7 عدم ممارسة القاضي لنشاطات مقابل
• الفصل8 لا يمكن نقلة القاضي أو تعليق نشاطه أو إنهاء مهامه إلا بعد احترام الإجراءات التأديبية
• الفصل 9الانتداب باعتماد معايير موضوعية ومحايدة
• الفصل 10 مساءلة القاضي مدنيا وجزائيا يجب أن تتم دون تأثير على نشاطه المهني
• الفصل 11 مساءلة القاضي تأديبيا تتم في نطاق احترام الاستقلالية وباعتماد معايير موضوعية ملائمة من جهة مستقلة لها تمثيلية قضائية محترمة substentielle وإجراءات قانونية مضبوطة سلفا prédeterminées,
• الفصل 12 الحق في التنظم
• 13 التأجير يضمن الاستقلالية الاقتصادية
• 14 على الدول توفير وسائل العمل الضرورية
• 15 على الدول التي تصنف أعضاء النيابة العمومية قضاة أن تعترف بمبادئ الاستقلالية
ونصوص دولية أخرى ذات صلة باستقلالية القضاء (الرأي عدد 3 للمجلس الأوروبي للقضاة المؤرخ في 19 نوفمبر 2002
• التوصية عدد 12 لسنة 2010 حول القضاة الصادرة عن لجنة وزراء الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي
• لجنة البندقية حول استقلالية القضاء الحصة 82 المؤرخة في 12-13 مارس 2010,
• -العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بالفصل 14
• الفصول 3و 7 و26 من الميثاق الافريقي لحقوق الانسان والشعوب
• الفصل 13 من اتفاقية الرياض للتعاون القضائي
• الفصل 11 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان
• المبادئ التوجيهية الخاصة بالاتحاد الافريقي بشأن الحق في محاكمة
عادلة والمساعدة القانونية)
واستعملت أغلب الدساتير العربية والغربية عبارة "السلطة القضائية"، واعتبرت القضاء على ذلك الاساس عنصرا من عناصر السيادة ومكونا أساسيا من مكونات الدولة. واستقرّت أحكام دستور2014 على خيار القضاء السلطة كخيار دستوريّ تأسيسي، وأعلن الدستور ذلك صراحة. وهوالــقَائِلِ فِي تَوْطِئَــــتِهِ " (...) وَتَأسِيسًا لِــنِظَامٍ جُمْهُورِيٍّ ديمقراطي تَشَارُكِيٍّ فِي إطَارِ دَوْلَةٍ مَدَنِيَّــةٍ الــسِّيَادَةُ فِــيهَا للــشَّعْبِ عَبْرَ الــتَّدَاوُلِ الـــسِّلْمِيِّ عَــلَى الــحُكْمِ بِوَاسِطَةِ الانْتِــخَابَاتِ الــحُــرَّةِ وَعَـلَى مَبْدَأ الـفَــصْلِ بَيْــنَ الــسُّلُــطَاتِ وَالــتَّوَازُنِ بَيْنَـــــهَـا (...)"، لِيَـأتِي الـفَصْلُ 21 بِـــمَقُـــــــولَةِ " وَهُــمْ سَواءٌ أمَامَ الــقَانُونِ مِــنْ غَيْـــرِ تَمْـــيِيزٍ "
وهو ما يَفْتَــرِضُ سُلْطَــةً قَضَائيَّــةً مُسْتَقِلَّــةً. فاقتضت الــفُصُولِ 27، 28 و29 من الدستور والمتعلقة بالحريات أن" المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته في محاكمة عادلة تكفل له فيها جميع ضمانات الدفاع في أطوار التتبع والمحاكمة" وَثَانِـــيهَا " لا يمكن إيقاف شخص أو الاحتفاظ به إلا في حالة تلبُّـــسٍ أو بقرارٍ قضائِـــيٍّ ويعلم فورا بحقوقه وبالتهمة المنسوبة اليه وله أن ينيب محاميا وتحدد مدة الإيقاف والاحتفاظ بقانون" وَثَالِــثـُـــــــــــهَـــــا " لكل سجين الحق في معاملةٍ إنْسَانِيَّةٍ تَــحفظَ كرامتَــه. تُراعي الدولة في تنفيذ العقوبات السالبة للحرية مصلحة الأسرة، وتعمل عَــــــلى إعادة تأهيل السجين وإدماجه في المجتمع"، وُصُولاً إلَــى البَـــــــنْدِ 49 الذي يُكَرِّسُ ذَلِكَ كُلَّهُ ضِمْنَ فَقْرَتِـــــــهِ قَبْل الأخِــيرَةِ " وَ تَتــَـــــــــــكَفَّلُ الـــهَــيْئَاتُ الــقَضَائِـــيَّـــةُ بِحِــمَـايَةِ الــحُقُوقِ وَ الــحُــرِّيَاتِ مِــنْ أيِّ انْــتِهَاكٍ " ، لِيَأتِي الـبَـــابُ الــخَامِــسُ " الــسُّلْطَةُ الــقَضَائِيَّــــةُ " فِي فُصُـولِهِ100 و101 و102 و103 و 104 و 105و106 و 107و108و109و110، مكرسا لاستقلالية حقيقية للسلطة القضائية " القَضَاءُ سُلْــــــــطةٌ مستقلةٌ تضمن إقامة العدل، وعلوية الدستور، وسيادة القانون، وحماية الحقوق والحريات. القاضي مستقلٌّ لا سلطان عليه في قضائه لغير القانون " مركزا للـمجلس الأعلـــى للقضَاءِ انْـــطِلاَقًا مِنَ الــفَصْلِ 109 إلَــى الــفَصْلِ 114، مُشِيرًا عَــلَى وَجْهِ الــخُصُوصِ إلَــى الفَصْلِ 110 الــقَائِلِ "يتمتع المجلس الأعلى للقضاء بالاستقلال الإداري والمالي والتسيير الذاتي، ويُــعِدُّ مشروع ميزانيته ويناقشه أمام اللجنة المختصة بمجلس نواب الشعب" وأضافت الفقرة الأولى منَ الــفَصْلِ 111 الــتِي جَاءَ فِيــهَا "يَضْمَنُ المجلس الأعلى للقضاء حسنَ سير القضاء واحترام استقلاله. وتقترح الجلسة العامة للمجالس القضائية الثلاثة الإصلاحات، وتبدي الرأي في مقترحات ومشاريع القوانين المتعلقة بالقضاء التي تعرض عليها وجوبا، ويبتُّ كلٌّ من المجالس الثلاثة في المسار المهني للقضاة وفي التأديب ".
وفي إطار تنزيل أحكام الدستور نص الفصل 115 من الدستور على ضرورة سن قانون النظام الأساسي للقضاة: يضبط حقوقهم وواجباتهم ومسارهم المهني ونظامهم التأديبي والضمانات الممنوحة لهم.
وبخصوص طبيعة النص، تتخذ شكل قوانين أساسية النصوص المتعلقة بتنظيم العدالة والقضاء (الفصل 65 من الدستور). وتتولّى الجلسة العامة «اقتراح الإصلاحات الضرورية لضمان حسن سير القضاء واحترام استقلاله». (الفصل 42 من قانون المجلس الأعلى للقضاء). أما مرجعيات النظام الأساسي للقضاة، فإنها تتم طبقا لأحكام الدستور والمعاهدات الدولية المصادق عليها والقانون.
فقرة ثانية: تنزيل الضمانات الدستورية في أحكام التشريع
مبادئ سيادة القضاء وعلويته واستقلاله، مهما كانت قيمتها الدستورية، لا تكفي حتى مجتمعة لتحقيق عدالة القضاء في النهوض بالوظيفة القضائية، إذا لم تعضّدها ضمانات القضاء السلطة. فالتنصيص الدستوري على استقلال السلطة القضائية وعلى دور المجلس الأعلى للقضاء كضامن لهذا الاستقلال يبقى مجرد "وعد دستوري" لا بد من إتمامه بصفة نهائية وتنظيمه، ولا يكون ذلك إلا بواسطة التشريع.
فقد أعطى الفصل 113 من الدستور للمجلس الأعلى للقضاء الاستقلال الاداري والمالي ومنحه التسيير الذاتي، وخوله إعداد مشروع ميزانيته ومناقشتها أمام مجلس نواب الشعب، وهو ما تم تثبيته بالقانون عدد 34الصادر في 28 افريل2016 المتعلق بالمجلس الاعلى للقضاء. فلكي يضطلع بالدور الموكول له بموجب الدستور، وهو ضمان حسن سير القضاء واحترام استقلاله. وتم تكريس الاستقلال الذاتي للمجلس إداريا وماليا، حتى يتمكن من ادارة نفسه بنفسه مع تمكينه من الموارد المالية الكافية التي تسمح له بأداء مهامه بكل استقلالية.
التسيير الذاتي للقضاء، الذي يعد نتيجة طبيعية و حتمية لاستقلال السلطة القضائية و يجد أساسه في مبدأ الفصل بين السلط، يجب أن يشمل لا فقط الاستقلال المالي والإداري، بل يتعداه الى الاستقلال في اداء الوظائف والاعمال والمهام، بحيث لا يكون لأية جهة صلاحية أو سلطة التدخل في اعمالها سواء المالية او الادارية او وظائفها ومهامها وواجباتها، فهي جهات يحكمها القانون، تدير نفسها بنفسها ولا سلطان عليها إلا لحكم القانون وأدواتها الداخلية والتراتيب التي تضعها بنفسها، فيتحقق بفضل التسيير الذاتي الاستقلال التام للمجلس وللسلطة القضائية.
التكريس الدستوري للقضاء كسلطة مستقلة عن باقي السلط يفترض تكريس هذا الاستقلال على المستوى الاداري والمالي والادارة الذاتية للسلطة القضائية ككل، ولا يقتصر الأمر فقط الاستقلال الاداري والمالي للمجلس، إذ ينبغي للسلطة القضائية أن تكون قادرة على ادارة نفسها بنفسها والاضطلاع بالمسائل التي تهم سير عملها (الاستقلال الاداري). كما ينبغي ان تتوفر للسلطة القضائية الموارد الكافية التي تمكنها من أداء مهامها على النحو الفعال حتى لا تكون عرضة للضغوط الخارجية أو للفساد (الاستقلال المالي).
فقد خيرت السلطة التأسيسية إرجاء الحسم في عديد الإشكاليات العملية الجوهرية التي يثيرها تطبيق الدستور إلى حين إصدار القوانين، من ذلك مثلا تركيبة المجلس الأعلى للقضاء بخصوص الثلث من غير القضاة، فجاءت الفصول من 10 إلى 13 من القانون المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء مدققة ومفصلة لهذا الانفتاح، فبالإضافة إلى القضاة المعنين بالصفة والمنتخبين، يضم المجلس منتمين إلى هياكل أخرى من محامين وأساتذة جامعيين وعدول تنفيذ وخبراء محاسبين.
وتقترح الجلسة العامة للمجالس القضائية الثلاثة الاصلاحات وتبدي الرأي في مقترحات مشاريع القوانين المتعلقة بالقضاء التي تعرض عليها وجوبا، ويبت كل من المجالس الثلاثة في المسار المهني للقضاة وفي التأديب. ثم يعد المجلس تقريرا سنويا يحيله الى كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس نواب الشعب ورئيس الحكومة ويناقشه مع مجلس نواب الشعب في مفتتح كل سنة قضائية في جلسة حوار.
ويمثل المجلس الأعلى للقضاء السلطة القضائية وهو مؤتمن على دولة القانون من خلال فرض سيادته وضمان حسن سير القضاء الساهر على تطبيقه، وهو أسمى مظهر لسيادة السلطة القضائية ولعلويتها.
كما أن تركِيبة الــمجلس من أربعة هياكل: مجلس القضاء العدلي ومجلس القضاء الإداري ومجلس القضاء المالي والجلسة العامة للمجالس القضائية الثلاثة هي نقطة قوة عبر الجمع بين مختلف أصناف القضاء في وحدة صماء للقضاة لها أبلغ الانعكاس على استقلاليتهم من خلال الرابط المشترك الجامع، أما تركيبة كل مجلس فإن المعينين بصفاتهم أربعة فقط أما الباقون فمنتخبون. بل إن الضمانة تبلغ مداها إذا عرفنا وإن تعيين الأربعة المذكورين ولئن كان بمقتضى أمر رئاسي فإنه يتم بناء على ترشيح حصري من ذات المجلس كما ضبطه الفصل 106 من الدستور، مقابل الفصل 42 من قانون المجلس الأعلى للقضاء: " تتولى الجلسة العامة: ... إصدار الرأي المطابق وتقديم الترشيح الحصري طبق الفصل 106 من الدستور ".
واستنادا لأحكام الفصل 114 من الدستور فمن المفروض أن يكون المجلس الأعلى للقضاء هو السلطة الوحيدة المؤهلة لممارسة مهمة إدارة القضاء، ولا يمكن لأي جهة أو سلطة أن تتولى " السهر على حسن سير القضاء " دون أن تكون تحت سلطة المجلس الأعلى للقضاء، فحسن سير القضاء يستوجب تمتيع المجلس بكل الصلاحيات التي تمكنه من اتخاذ التدابير والقرارات والإجراءات التي من شأنها تحسين جودة القضاء وحسن إدارة المحاكم والتصرف الناجع فيها.
غير أن إبقاء إدارة القضاء وخاصة إدارة المحاكم بيد السلطة التنفيذية من شأنه أن يفرغ مفهوم الاستقلالية والتسيير الذاتي من محتواه وجوهره، فكيف للمجلس الاعلى للقضاء أن " يضمن حسن سير القضاء واحترام استقلاله " طبق أحكام الفصل 114 من الدستور وهو منزوع الصلاحيات فيما يخص ادارة القضاء وبعض الجوانب المتعلقة بالإشراف على المسار المهني للقاضي.
الجزء الثاني: التكريس الفعلي لاستقلالية القضاء
النصوص القانونية لوحدها شرط ضروري وغير كاف لإرساء سلطة قضائية ومستقلة، إذ لا بد من ترجمتها لواقع ملموس من خلال ما يتمتع به القضاة من حقوق (فقرة أولى) وما يتحملونه من التزامات (فقرة ثانية).
فقرة أولى: ترجمة الاستقلالية من خلال حقوق القضاة
تتعلق أهم الحقوق بالانتداب (1) والتكوين (2) المسار المهني (3) والحق في التنظّم (4).
1-الانتداب
صيغ الانتداب: قدم قانون المجلس الأعلى للقضاء عدة ضمانات يمكن تدعيمها لعل أهمها:
• الفصل 29- يقع انتداب القضاة من بين حملة شهادة المعهد الأعلى للقضاء. ويضبط وزير العدل بقرار شروط المشاركة في مناظرة الدخول إلى المعهد المذكور ونظامها وبرامجها.
• ويطلق على من يزاول التعليم فيه اسم "ملحق قضائي"
• الفصل 31- يعرض وزير العدل ملفات الملحقين القضائيين المحرزين على شهادة المعهد الأعلى للقضاء على المجلس الأعلى للقضاء لإبداء الرأي ثمّ على رئيس الجمهورية بقصد تسميتهم قضاة وعندئذ يعينون في درجة البداية من الرتبة الأولى. ويخضع هؤلاء القضاة إلى مدّة تأهيل تدوم سنة ابتداء من تاريخ الممارسة الفعليّة لمهنة القضاء.
• الفصل 32- يمكن أن يعيّن في أي رتبة من رتب السلك القضائي وبدون مناظرة:
• أولا: الأساتذة والمكلفون بالتدريس بكليّة الحقوق والعلوم الاقتصادية والمدرسة العليا للحقوق.
• ثانيا: المحامون الذين قضوا في مباشرة المهنة مدة عشر سنوات على الأقل بما في ذلك مدة التربص
• تحسين جودة القضاء ينطلق من تأهيل القضاة وتكوينهم (التكوين الاولي والتكوين المستمر بفرعيه الإلزامي والمستمر)، لذلك يتعين على المجلس الأعلى للقضاء أن يشرف على المعهد الأعلى للقضاء ويضبط شروط التدريس به وبرامج التدريس واختيار المدرسين وإعداد البرامج للرفع من كفاءة القاضي مع تنوع مجالات تدخله وتشعب القضايا بمنأى عن كل تأثير للسلطة السياسية.
2-التكوين والتخصص
ينطلق تحسين جودة القضاء من تأهيل القضاة وتكوينهم (التكوين الاولي والتكوين المستمر بفرعيه الإلزامي والمستمر)، لذلك يتعين على المجلس الأعلى للقضاء أن يشرف على المعهد الأعلى للقضاء ويضبط شروط التدريس به وبرامج التدريس واختيار المدرسين وإعداد البرامج للرفع من كفاءة القاضي مع تنوع مجالات تدخله وتشعب القضايا بمنأى عن كل تأثير للسلطة السياسية.
وعوض تمكين المجلس من صلاحية انتداب وتكوين القضاة، اكتفى القانون بإسناد الجلسة العامة دورا استشاريا يتمثل في مجرد إبداء الرأي في مناظرة انتداب القضاة وفي برامج التدريس بالمعهد الأعلى للقضاء وأبقي على صلاحيتي الانتداب والتكوين بيد السلطة التنفيذية، وفي ذلك تشويه لمقصد واضع الدستور وارتداد عن المبدأ الدستوري: القضاء سلطة مستقلة. إذ يؤكد الميثاق الأوروبي المتعلق بنظام القضاة لسنة 1998 مثلا، على ضرورة أن تكون الجهة المكلفة بتحديد محتوى وجودة برامج تكوين القضاة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية. فتكوين القضاة يرتبط بمبدأ استقلال القضاء وملازم له، لذلك فمن الوجيه بمناسبة إعداد القانوني الأساسي الجديد للقضاة تكليف المجلس الأعلى للقضاء بضبط مضمون برامج التكوين ومراقبة محتواها بالتعاون مع الهياكل الممثلة للقضاة، التي يمكن أن يكون لها دور يسند عمل المجلس، يتمثل في إبداء المقترحات وتقديم التصورات في خصوص منظومة التكوين بالمعهد الأعلى للقضاء. ولنا في التشاريع المقارنة أسوة، فالقانون الإيطالي عهد للمجلس الاعلى للقضاء مهمة التكوين الاولي للقضاة بالتعاون مع المجالس القضائية الجهوية الموجودة على مستوى محاكم الاستئناف، وذلك بواسطة اللجنة العلمية ولجنة التكوين.
لذلك فمن الوجيه بمناسبة إعداد القانوني الأساسي الجديد للقضاة، إضافة إلى تحديث تنظيم المسارات المهنية وإرساء معايير موضوعية للتقييم، تكليف المجلس الأعلى للقضاء بضبط مضمون برامج التكوين ومراقبة محتواها بالتعاون مع الهياكل الممثلة للقضاة التي يمكن أن يكون لها دور يسند عمل المجلس يتمثل في إبداء المقترحات وتقديم التصورات في خصوص منظومة التكوين بالمعهد الأعلى للقضاء.
3-المسار المهني
أما من جهة الاشراف على مسار القاضي المهني، فإنه يبدأ بترشيح القاضي برأي مطابق من المجلس الأعلى للقضاء، ويتواصل من خلال التدرّج في السلم والترقية والتأديب تحت ولاية وإشراف المجلس الاعلى للقضاء، بما يجعل هذه الهيئة هي أعلى سلطة في الهيكل القضائي المشرفة على كل شؤون القضاء، وبالتالي الممثلة للسلطة القضائية والمحتكرة لها.
تجدر الإشارة إلى أن القانون المنظم للمجلس الأعلى للقضاء قد اعتمد مفهوما ضيقا للمسار المهني، وذلك بالاكتفاء بالتسمية والترقية والنقلة، واستبعاد الانتداب والتكوين والتأجير والتقييم والتفقد.
لعل أهم الضمانات المتعلقة بالمسار المهني للقضاة تتمحور حول:
*مبدأ عدم نقلة القاضي إلا برضاه، فقد إقتضى الفصل 48 أنه لا يمكن نقلة القاضي خارج مركز عمله ولو في إطار ترقية دون رضاه المعبّر عنه كتابة. ولا تحول هذه الأحكام دون نقلة القاضي بموجب قرار معلّل صادر عن المجلس القضائي، وفي ذلك تكريس للفصل 107 من الدستور "بموجب قرار معلل من المجلس الأعلى للقضاء" مراعاة لمصلحة العمل.
*البت في المسار المهني للقاضي، فقد اقتضى الفصل 45 من القانون أنه يبتّ كل مجلس قضائي في المسار المهني للقضاة الراجعين إليه بالنظر من تسمية وترقية ونقلة، كما يبتّ في مطالب رفع الحصانة ومطالب الاستقالة والإلحاق والإحالة على التقاعد المبكّر والإحالة على عدم المباشرة وفق أحكام الأنظمة الأساسية للقضاة.
4-الحق في التنظّم
مسألة حق القضاة بالتمتع بحرية التنظّم، ليس على أنها مسألة حريات دستورية مكفولة وحسب، بل أيضا على أنها مسألة تتصل بفصل السلطات وتحديدا بضمانات استقلال القضاء. ففيما يتفق الجميع أن مقتضيات وظيفة القضاء تفرض تقييد حرية إنشاء الجمعيات، فإن الخلاف يقع حول المسائل المحيطة بها، ومن أبرزها: ما هي القيود الجائزة على هاته الحرية ذات القوة الدستورية؟ وبم يمكن تبريرها؟ بلغة أخرى، هل لهاته الحرية وظيفة معينة في إصلاح القضاء وفي دعم استقلاليته؟ وهذا الجانب من المسألة فرضته تجارب قضائية عدة، شكلت فيها جمعيات القضاة عاملا مركزياً في تعزيز استقلال.
فمن جهة أولى، نجد النصوص الدستورية التي تكفل لجميع المواطنين من دون أي استثناء حرية التجمع وإنشاء الجمعيات، من ذلك ما اقتضاه الفصل 35 من الدستور التونسي لسنة 2014 من أن "حرية تكوين الأحزاب والنقابات والجمعيات مضمونة". كما تضمنت مبادئ استقلال القضاء الصادرة عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة في سنة 1985حق " تمتع القضاة بحرية تأسيس والالتحاق بجمعيات أو تنظيمات جماعية أخرى تمثّل مصالحهم والجماعية، تعزز ّ تنشئتهم المهنية وتحمي استقلاليتهم القضائية". هذه النصوص تجعل حرية التجمع ضمانات أساسية لاستقلال القضاء، بحيث يظهر أي مس بجوهرها بمثابة نقيض لهذا الاستقلال.
إذ تعمل جمعيات القضاة من أجل خير القضاء وتعزيز استقلاليته، والدفاع عنه عند الاقتضاء أو عند تعرض القاضي للتشهير والتهجم على حرمته وكرامته، وتأمين التواصل مع المجتمع المدني وتوعية الرأي العام على ضرورة تحقيق هذه السلطة المفترض بها حماية الحريات وضمانة الحقوق. فضلا عما يمكن أن توفره هذه الهيئات من مساحة فكرية للحوار وإنماء الثقافة القانونية، بما من شأنه المساهمة في تطوير مرفق العدالة وفي تحسين الأداء القضائي ليتماشى مع أحدث التطورات العلمية والتقنية.
فعلا، يجب النظر إلى الهياكل القضائية الممثلة للقضاة على كونها إحدى الوسائل التي تمكن القاضي من المشاركة في عملية الإصلاح، ومتابعة مشاريع تكريس السلطــــة القضائية المستقلة من النواحي القانونيـــــة والتنظيميــــة والمالية. وبهذا المعنى فهي ليست نقيضا أو جبهة في مواجهة المجالس القضائية العليا وإنما عونا له.
فانطلاقا من وظيفتها، من شأن الجمعيات المهنية أن تؤدي دورا مكملا لدور المجلس الأعلى للقضاء في ضمان استقلال القضاء. ففيما يتولى المجلس ضمان هذا الاستقلال من خلال سياساته المتبعة في مجال إدارة المسار المهني للقضاة وبشكل أعم تنظيم القضاء، تضمن الجمعيات التواصل والتباحث بين القضاة ومراقبة عمل المجالس القضائية العليا وإعطاءها المشورة اللازمة تكريسا لقيم الديمقراطية التشاركية وضمانا لمشاركة واسعة للقضاة في إنجاح كل خيار إصلاحي. فقد دأب المجلس الأعلى للقضاء التونسي مثلا على استشارة الهياكل الممثلة للقضاة ودعوتهم لتقديم مقترحاتهم في كل ما يهم مشاريع إصلاح سير عمل القضاء، وتنظيم ملتقيات وجلسات استماع مع ممثلي القضاة قصد اطلاعهم على المعايير المزمع اعتمادها في الحركة القضائية وتلقي ملاحظاتهم في شأنها، بما سمح بتحسين عمل المجلس وتطويره وتجاوز عديد الهنات التي طبعت تجاربه الأولى.
لكن، قد يطرح تواجد الهيئات الممثلة للقضاة إلى جانب المجلس إشكالية تعارض المواقف بينها وبينه بخصوص أي من الشؤون القضائية الهامة. ومن هذا المنطلق، قد يكون من الضروري إدخال بعض القواعد التنظيمية بهدف تنسيق المواقف بين هذه الهيئات بما يضمن ويعزز استقلال القضاء.
للخروج من وضعية العجز والجمود وهجر منطق التضييق على حرية التنظم المكفولة للقضاة باسم قراءة متزمتة لواجب التحفظ. هذا الواجب المحمول على أعضاء السلطة القضائية يجب أن لا يتحول إلى مرادف لواجب الصمت. ولا يمكن أن يؤول إلى تقييد حق القضاة وواجبهم في الدفاع عن حقوقهم المادية والمعنوية حسبما يكفله لهم الدستور والمواثيق الدولية، أو أن ينال من واجبهم في الدفاع عن استقلال القضاء، وفي ممارسة دورهم في الرقابة على الهياكل المشرفة على القضاء، وعلى تعاطي السلطة السياسية مع مطلب إصلاح القضاء ودعم استقلاليته. كل ذلك ضمن نطاقٍ يحفظ هيبة القضاء ونزاهته، ودون أي اصطفاف سياسي أو التباس بانتماء حزبي.
فقرة ثانية: ترجمة الاستقلالية من خلال الالتزامات المحمولة على القضاة
تبرز الالتزامات الواجب تضمينها بالنظام الأساسي للقضاة من خلال تنزيل المبادئ والقيم الدستورية من جهة، وترتيب مسؤوليته عند إخلاله بالواجبات التي تتحكم رسالة القضاء. ولا بد من تنزيل المبادئ المنصوص عليها بالدستور بالقانون الأساسي للقضاة في شكل واجبات والتزامات ضمانا لحياد القاضي ونزاهته والكفاءة والحياد وحسن السلوك كما جاء يالفصل103. إذ يجب أن يتحلى القضاة بجملة من الأخلاقيات والسلوكيات السليمة حتى تتمكن السلطة القضائية من تحقيق المهمة الموكلة إليها ألا وهي إقامة العدل من خلال الالتزام بالقانون وبمبدأ المساواة أمام القانون والمحاكم. وتتمثل الخصال"الدستورية" المطلوبة في القاضي فيما يلي:
1-واجب استقلالية القاضي- تلازم وتكامل استقلال القضاء كسلطة واستقلال القاضي كفرد ويبرز ذلك من خلال:
-البتّ في القضايا دون اعتبار للقيود والتأثيرات والضغوطات الّتي يتعرّض لها مهما كان مأتاها ونوعها ومهما كانت غاياتها، سواء صادرة عن السلطتين التنفيذية أو التشريعية أو عن المتقاضين أو عن زملاء القاضي في العمل والهياكل النقابية أو عن وسائل الإعلام أو عن الأحزاب السياسية أو عن غيرها من جماعات الضغط. ولنا في خير مثال في عدة قضايا نشرت أمام المحاكم شدت أنظار الرأي العام للقضاء وأثارت تعاليق وضغوطات سواء من الشارع أي عموم المواطنين أو من الاعلام لوجود تتبعات جزائية أو ايقافات ضد بعض الإعلاميين أو الشخصيات العامة أو السياسية. وما شهدته بلادنا مؤخرا بعد إيقاف أحد أهم الوجوه السياسية والإعلامية خير مثال خصوصا بعد ترشحه للدور الثاني من الانتخابات الرئاسية. وكذلك النزاعات القطاعية وما حصل بمكتب وكيل جمهورية تونس وترتبت عليه من تصريحات وبيانات بين القضاة والمحامين وكذلك إيقاف المحامي المتهم بالقتل العمد لمن دخل منزله وحاول السرقة بمدينة سوسة خلال هذه الصائفة وما آلت إليه الأوضاع من تأزم بعد الافراج عنه من قاضي التحقيق واستئناف النيابة العمومية لقرار الافراج.
وفي كل تلك الحالات فإن القاضي مطالب بالتشبث باستقلاليته وعن الانحياز لعدم طرف والتطبيق السليم للقانون لضمان محاكمة عادلة لكافة المتقاضين مهما كانت صفة أطراف النزاع، وتجنّب تضارب المصالح وعدم السعي إلى تحقيق منافع شخصية. علاوة على تجنّب كل العلاقات والتصرّفات الّتي من شأنها أن تجعل استقلاليته في أدائه لوظائفه محل شك أو موضع شبهة من وجهة نظر معقولة. وعموما فإن القاضي مطالب بالالتزام بالدفاع عن استقلال السلطة القضائية وبالمشاركة الفعالة في كلّ المبادرات والتحرّكات الّتي تهدف إلى تعزيز الاستقلالية.
2- واجب التحفظ: ويبرز هذا الواجب من خلال عدم قيام القاضي بأي سلوك من شأنه المسّ بهيبة المهنة أو بصورتها عند عامة الناس. وأن يتصرّف بطريقة تعزّز ثقة كل الأطراف في القضاء وترفع من شأن القضاة في المجتمع. كما يتجسد واجب التحفظ من خلال المحافظة على سرّية أعمال التحقيق والمفاوضات وعلى عدم كشف أي معلومة توصّل إليها بموجب عمله إلا في حدود ما يسمح به القانون. كالالتزام بالقيود الأخلاقية التي تفرضها ممارسته لمهنة القضاء. علاوة على الظهور بمظهر لائق والتحلي بالسلوك الحضاري المتّسم بالبساطة والتواضع والهدوء والابتعاد عن الغرور والتكلّف والرياء، وتجنّب القدح في أعمال زملائه أو التشكيك في نزاهتهم أمام العموم أو تقييم أعمالهم خارج الأطر المتعارف عليها، كتجنّب القاضي كل سلوك من شأنه أن يضعه موضع شبهة أو أن يثير حوله الشكوك بما يمسّ من اعتباره الشخصي ومن هيبة السلطة القضائية. وعموما بالتزام القاضي باحترام كلّ الضوابط القانونية المنظّمة لعلاقته بالآخرين عامة وبالحياة السياسية والشأن العام على وجه الخصوص.
3-واجب الحياد فقد أوجب الدستور الجديد في فصله 103 على القاضي أن يلتزم الحياد واقتضى أنه "يشترط في القاضي الكفاءة ويجب عليه الالتزام بالحياد والنزاهة، وكل إخلال منه في أداءه لواجباته موجب المساءلة". فقد ربط المشرع هنا مبدأ الحياد بالنزاهة.
والحياد يضمن المساواة بين أطراف الدعوى وهو يفترض حياد القاضي الذاتي وعدم تحيزه بأن يكون القاضي على مسافة واحدة من أطراف الدعوى من دون أي فكرة أو نظرة مسبقة وأن يكون منزهًا عن التعصب الديني والعرقي والسياسي والجهوي.
4-واجب النزاهة فهو يأتي في قمة هرم الخصال التي يجب أن يتحلى بها القاضي. وقد أكد الدستور الجديد صلب الفصل 103 منه على أن يلتزم القاضي بالنزاهة، وكل إخلال منه في أدائه لواجباته موجب للمساءلة". ويشترط في توفر النزاهة القضائية شرطان اثنان : الأول ذاتي بحيث أنه لا ينبغي لأي عضو من أعضاء المحكمة أن تكون له أفكار شخصية مسبقة أو تحيز ونزاهته الشخصية مفترضة ما لم يكن هناك دليل على عكس ذلك، والثاني موضوعي يتمثل في وجوب أن توفر المحكمة الضمانات باستبعاد أي شك مشروع يُثار في نزاهتها أو نزاهة قضاتها.
ويبرز هذا الواجب واقعيا من خلال التحلّي بسلوك سليم قوامه الشرف والأمانة ونظافة اليد والترفّع والتحفّظ عن كل ما من شأنه أن يشكّك في مصداقيته وفي شرفه واحترام مقتضيات القانون والامتناع عن مخالفته وعدم استعمال واستغلال منصبه وصفته كقاض لتعزيز مصالحه الشخصية. وعموما الحرص على أن يكون سلوكه فوق كلّ الشبهات.
5-واجب الكفاءة اشترط الفصل 103 من الدستور التونسي الجديد أن يكون القاضي كفؤا أي قادرا أن يؤدّي كافة واجباته القضائية، بما يكون معه من واجب القاضي العمل على تعزيز معارفه ومهاراته وصفاته الشخصية ومن واجب السلطة القضائية أو الجهاز المشرف على تكوين القضاة توفير فرص دعم القدرات.
وواجب الكفاءة في مفهومها الشامل تبرز من خلال تمكّن القاضي من مجموعة المهارات المعرفية والاتّصالية والاجتماعية والوجدانية الّتي تمكّنه من ممارسة وظيفته وأداء رسالته على الوجه الأكمل. وليست مجرد الكفاءة الإجرائية البسيطة المتعلّقة بالقدرة على استعمال المعارف القانونية النظرية للقيام بالأعمال القضائية المناطة بعهدته).
فعلى القاضي أن يحرص على تحيين معلوماته القانونية بالمستجدات التشريعية وتطورات فقه القضاء. والالمام ببقية العلوم الإنسانية وفهم الواقع الاقتصادي والاجتماعي والخصائص الثقافية والحضارية للمجتمع التونسي. كالمساهمة في تعزيز الدور الإنشائي لفقه القضاء، والمساهمة في تطوير منظومة الإجراءات القضائية في اتجاه التبسيط والنجاعة. كما يجب أن يكون القاضي واثقًا من نفسه وشجاعًا وقادرًا على الدفاع عن مواقفه وعلى مواجهة الكافة بها (لشجاعة والقدرة على التحكّم في الذات). وأن يتحلي بسعة الصدر وبالقدرة على الإصغاء باهتمام إلى الآراء المخالفة لرأيه.
واجب الحرص من خلال اعطاء القاضي الأولوية المطلقة لنشاطه القضائي، والقيام بعمله على أكمل وجه من حيث الجودة. وتخصّيص القاضي الوقت الكافي للقيام بعمله. ولا ينفي ذلك إمكانية ممارسة نشاط خاص بمقابل بشرط الترخيص للقيام بالأنشطة ذات الصبغة العلمية أو ثقافية دون المساس بمبدأ تفرّغ القاضي لممارسة عمله الأصلي، وأن لا تؤدّي ذلك إلى تحميل زملائه أعباء العمل المناط بعهدته. كالحرص على تنظيم وسائل العمل بطريقة محترمة ومحترفة، وعلى فصل القضايا في الآجال المحدّدة قانونا أو في آجال معقولة تحقيقا لنجاعة العمل القضائي. كل ذلك مع ضمان الحرص على جودة الأحكام والقرارات القضائية.
6-واجب اللياقة، فقد شددت مبادئ بانغالور للسلوك القضائي عل لياقة القاضي والابتعاد عن كل المظاهر المنافية لها سواء كانت فعلية أو ظاهرة واعتبرت أنه على القاضي أن يتحلى بسلوكيات تجعله في منأى عن الشبهات حتى يكون محل ثقة، فعليه أن يكون أمينا، محايدا وأن يتصرف بشكل يحافظ به على هيبة القضاء وحياده واستقلاله.
ولكننا نجد في اليمين التي يؤديها القاضي التونسي مظهرا من مظاهر مبدأ الياقة وهو قسمه بأن "يكون سلوكه سلوك القاضي الأمين الشريف"، وهو ما يقتضي أن يتجنب كل عمل أو سلوك من شأنه المس بشرف المهنة.
7- المبدأ المتعلق بالمساواة، فقد أقره الدستور التونسي معتبرا أن كل المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز، الفصل 21 من الدستور وأن " لكل شخص الحق في محاكمة عادلة في أجل معقول والمتقاضون متساوون أمام القضاء" (الفصل 108). ولكن هذا المبدأ ولئن بدا واضحا لا خلاف فيه فإن تكريسه على أرض الواقع يرتبط بمدى توفر معطيات أخرى كتطور إدارة القضاء وسهولة النفاذ إلى العدالة للجميع على حد السواء.
ووردت المبادئ الدستورية السالفة الذكر بكتاب سياسة القضاء وتدبير الحكم الذي يرجع إلى 1400 سنة خلت ألا وهو رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري حين ولاه أمر القضاء في البصرة لما فيها من معاني نبيلة لطالما مثلت في تونس أساسا لنقل المبادئ الأخلاقية والسلوكية القضائية المتعلقة بالنزاهة إلى القضاة الجدد ونصها الآتي:
«أما بعد، فإن القضاء فريضة مُحكَمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلّم بحق لا نفاذ له، آس الناس في وجهك ومجلسك وقضائك (المساواة)، حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك (الاستقلالية)، البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرّم حلالاً، ومن ادعى حقاً غائباً أو بينة فاضرب له أمداً ينتهي إليه (الحرص)، فإن بينه أعطيته حقه، وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية، فإن ذلك أبلغ في العذر، وأجلى للعمى، ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه رأيك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق فيه، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، والمسلمون عدول بعضهم على بعض في الشهادة إلا مجلوداً في حدٍ أو مجرباً عليه شهادة زور، أو ظنيناً في ولاء أو قرابة، فإن الله تعالى تولى من العباد السرائر، وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان، ثم الفهم الفهم (العلم والاختصاص) فيما أدلي إليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال، ثم اعتمد أحبها إلى الله فيما ترى وأشبهها بالحق، وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس عند الخصومة والتنكر (اللياقة)، فإن القضاء في مواطن الحق يوجب الله به الأجر، ويحسن به الذكر، فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزيّن لهم بما ليس في قلبه شانه الله (النزاهة والحياد)، فان الله لا يقبل من العباد إلا ما كان له خالصاً، وما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته ..والسلام».