يمكن الجزم، بادئ ذي بدء، أن العدالة الإلكترونية أضحت مطلبا ملحّا وضرورة حتمية لتطوير نظام التقاضي وتحسين جودة خدماته وتسهيل الوصول إلى المعلومة القضائية بمتابعة مسار ومآل القضايا من المتقاضين والمحامين بصفة مباشرة. فالوصول إلى العدالة بيُسر، مرتبط أشد الارتباط بمدى توفر جودة الخدمات القضائية، فالجودة هي مسعى ومطلب لجميع فئات المجتمع، سواء العاملين بقطاع العدالة أو المستفيدين من خدماته. وهو ما يقتضي أولا تحديث وعصرنة قطاع العدل إدارة وتدبيرا وتسييرا، وأيضا تحديث أسسه وركائزه الأساسية خاصة المادية منها واللوجستية.
وقد شرعت وزارة العدل بالتعاون مع وزارة تكنولوجيات الاتصال والاقتصاد الرقمي بإعداد مخطط «العدالة الرقمية 2017 -2020» لتركيز نظام معلوماتي مندمج للمنظومة القضائية في تونس. وتمّ إدراجه ضمن المخطط الوطني الاستراتيجي «تونس الرقمية 2020» الذي يهدف إلى تحسين نجاعة إدارة القضاء وتسهيل النفاذ للمنظومة العدلية والمساعدة على حسن القيادة وأخذ القرار.
ويقوم هذا المخطط على ثلاثة محاور أساسية وهي:
- النفاذ إلى المعلومة وإلى القانون من خلال تركيز نظام معلوماتي متطوّر يقدّم خدمات لمختلف المتدخّلين والمتعاملين مع المحاكم ووزارة العدل،
- رقمنة الأحكام والملفّات وإحكام أرشفتها إلكترونيا،
- تركيز بنية تحتية عالية الأداء والجودة تعتمد على شبكة لتراسل المعطيــات ذات سعة عالية تشمل كافّة المحاكم والمؤسسات الراجعة بالنظر لوزارة العدل.
ومن شأن هذا البرنامج المساير للتطور التكنولوجي أن يحقق قيمة مضافة للاقتصاد وللمجتمع بتبسيط إجراءات التقاضي وتوفير الوقت والجهد وتخويل إسداء الخدمات عن بعد بمواصفات جودة عالية تجمع بين السرعة والدقة والتكلفة الأقل. فضلا على أن رقمنة العدالة تشكل عاملا هاما في تحقيق المزيد من ضمانات النزاهة والشفافية والمساواة أمام المرفق العام وتسهيل الوصول إليه.
إن التعويل على المعلوماتية في الخدمات القضائية فيه نفع أكيد ومغانم كثيرة، ولعل أهمّ ما تحققه المعلوماتية هو السرعة والدقة والسرية والسلامة والتعريف وعدم القدرة على إنكار المعاملة.
فالواضح أن إتمام الخدمة عن بعد يعفي المستخدم من التنقل إلى مقر المحكمة وإتمام العملية إلكترونيا لا يوجب كثيرا من الوقت والخطأ وارد كثيرا في العمل اليدوي على خلاف الممارسة الالكترونية، فلا يمكن للتطبيقات المعلوماتية أن تخطئ، وحتى ولو أخطأ المتعامل مع التطبيقات المعلوماتية فلا يمكن إتمام الإصلاح إلا بتدخل فني الإعلامية على المنظومة بأرقام سرية. ومن السهل المحافظة على سرية المعلومة الالكترونية بالأرقام السرية وما شابه ذلك. وتعمل وزارة العدل من خلال عمل البوابة أو المنظومات المعلوماتية على ضمان السرية التامة للمعطيات الشخصية المتعلقة بالشكايات والمحاضر، والقضايا المنشورة بالمحاكم واتخذت كل الإجراءات والاحتياطات لتفادي أي اختراق الكتروني للبوابة ومختلف منظوماتها، بأن حصرت النفاذ إلى المعلومة القضائية في المحامي أو المتقاضي المعني دون غيره. ومن السهل التعرف على كل من انخرط في الممارسة المعلوماتية بحيث لا يمكنه إنكار الممارسة.
يقدم البنك الدولي مقترحات حول تحسين تصنيف ترتيب الدول في جلب الاستثمار باعتماد سلسلة من الممارسات الفضلى في نظام إدارة القضايا ورقمنة (مكننة أو أتمتة) المحاكم وحوكمتها عبر مؤشرات عديدة تضمن جودة العدالة لعل أهمها:
-إنشاء نظام إدارة القضايا إلكترونيا من خلال تطوير منصات إلكترونية للتبادل والتواصل بين الإدارة القضائية والدفاع، وانفتاح الإدارة القضائية على محيطها ببروتوكولات التبادل الالكتروني التي من شأنها تسهيل عمل المحاكم وتقريبه وتمكين المحامين من مباشرة إجراءات التقاضي عن بعد بتحديد المذكرات والتوصّل بالاستدعاءات ومباشرة الإجراءات المتعلقة بالقضية والاطلاع على المؤيدات وتبادل التقارير والتصريح بالأحكام إلكترونيا دون حاجة للتنقل للمحكمة.
-نشر الأحكام القضائية إلكترونيا لزيادة القدرة على التنبؤ والشفافية في عملية التقاضي وتحسين سمعة النظام القضائي بالكامل عندما يمكن أن يرى العالم الأحكام في نظام المحكمة، وهو ما يعزز ثقة العامة والمستثمرين.
ويعطي التصنيف العالمي لقاعدة البيانات نقطة مكافأة لكل من هذه التحسينات، كما تساعد التصنيفات الدول على تحليل عملية التقاضي من وجهة نظر الأعمال التجارية والبحث عن سبل تطويرها وهي مفيدة للمستثمرين لفهم نظام المحاكم وفصل النزاعات في الدولة.
تساعد التصنيفات العالمية الدول على تحليل عملية التقاضي من وجهة نظر المستثمرين لفهم نظام المحاكم في الدولة والموافقة أو عدم الموافقة على التقاضي.
ويساهم تصنيف ترتيب ممارسة أنشطة الأعمال من البنك الدولي الذي أنشئ في عام 2002 في تجميع البيانات الكمية لمقارنة بيئات تنظيم الأعمال التجارية عبر الاقتصادات وعلى مر الزمن. ويعتمد التصنيف مجموعة مؤشرات لحوالي 189 من الاقتصادات في العالم. وقام تقرير عام 2016 بإدخال إجراء جديد، وهو مؤشر نوعية العمليات القضائية وسيادة القانون، وتقييم ما إذا كان كل اقتصاد قد تبنى سلسلة من الممارسات الجيدة التي تعزز الجودة والكفاءة في نظام المحاكم، والتي من شأنها أن توفر مناخا ملائما لجلب الاستثمار.
ويطلب المستثمرون الأجانب من نظم المحاكم الشفافية، والقابلية للتوقع، والكفاءة، والسرعة المعقولة والنجاعة المطلوبة في تنفيذ الأحكام القضائية. ويقيس المستثمرون مدى توفر الممارسات الفضلى في نظام المحاكم عبر عدّة مؤشرات تتمثل أساسا في مكننة (أتمتة) المحاكم وحسن إدارة القضايا.
فبخصوص المؤشر الأول المتعلق بمكننة (أتمتة) المحاكم فإن ذلك يمرّ عبر إيداع الدعاوى والشكاوى بصورة إلكترونية، والإخطار بها وسداد الرسوم بالوسائل الإلكترونية دون عناء التنقل للمحاكم. وتركيز منصّة إلكترونية للتواصل بين الإدارة القضائية والمحامين، وذلك بتحرير المذكرات ومختلف المقالات عبر هذه المنصّة، وتوجيهها إلى المحكمة التي تتوصل بها في حينها، ويصدر القاضي حكمة أينما وجد، وتنشر الأحكام للعموم عبر الرسائل الإلكترونية أو الانترنت.
أما بخصوص المؤشر الثاني المتعلق بحسن إدارة القضايا فإنّ ذلك يمرّ عبر توفير أرضية لبوابة إلكترونية تؤمن خدمات عمومية وتمكن من تقليص الكلفة والآجال واستغلال التكنولوجيات الحديثة في التواصل مع المحاكم عند تسجيل القضايا وخلاص الرسوم والحصول على جداول الجلسات والاطلاع على المؤيدات وعلى نصوص الأحكام واستخراج اللوائح والوثائق كالسجلات التجارية مثلا.
وتمكن تلك المؤشرات الهيكلية أو اللوجستية من تحسين سمعه النظام القضائي بالكامل، وتعزيز ثقة المستثمرين في قانون الدولة وقضائها. غير أن المعلوماتية حدث هام لا يخفي السلبيات إذا لم ترق الممارسة إلى مستوى معين من الحذق والدقة العلمية. ولعل أهم هذه السلبيات هو ما يرد إلى آلية الخدمة وازدواجيتها ومقتضيات حفظها وضمان سريتها وسلامتها وعدم تحيينها وعدم تعميمها والتوقف عند البعض منها دون الآخر.
فالآلية تقضي بداية على اليد العاملة اليدوية ومهارتها وسهولة التدخل لرفع النقص أو معالجته بالطريقة الملائمة وقلما تستوعب المنظومات المعلوماتية تفصيلات الإجراءات بمجملها وكثيرا ما يصعب إتمام بعض الإجراءات لعدم تنظيمها الكترونيا وقد بينت التطبيقات فعلا نقص المنظومات القضائية المعتمدة في عدة نقاط هامة.
وتبقى الخطورة قائمة في تلاشي المعلومة ومتصلة بتبخر البيانات إذا لم يقع التفكير في حفظ البيانات بطرق فنية تراعي التقدم التقني في تطور البرمجيات المعلوماتية.
ولا يكفي وضع مواقع على ذمة المتقاضين والمحامين بل يفترض تحيين بيانات هذه المواقع وجعلها تستوعب المستحدثات وآخر ما طرأ على البيانات من تغيير وتعديل وإلا بقيت البيانات عديمة الجدوى.
وتبقى إشكالية حفظ سرية المعلومة وضمان سلامتها من أهم الإشكاليات المطروحة بالنسبة إلى المعاملات الالكترونية الخاصة خشية الاطلاع على مضامينها من قبل ممن ليس لهم صفة. كما أن المعالجة العامة والمفتوحة للمعلومة كما هو الشأن بالنسبة إلى نشر الأحكام العامة بالمواقع المفتوحة لا يستبعد خطر الاعتداء على الحياة الخاصة بجمع البيانات الواردة بها واستعمالها فيما يضر بالمتقاضين.
غير أن المحصّل من التطبيقات المعلوماتية لا يرقى إلى المطلوب، فالمستوى الجيد في ذلك هو أن ترفع الدفاتر اليدوية ويضمن الإتقان، إتقان القاضي والكاتب والمتقاضي والمحامي للأجهزة والتطبيقات المعلوماتية وتوفر الأجهزة والمنظومات المعلوماتية الجيدة ويمكن للمتقاضي والمحامي ليس فقط من الاطلاع على البيانات بل التأثير على المعلومة وإتمام جميع الإجراءات عن بعد بما في ذلك تقديم الدعوى والمستندات والترافع والحكم وغير ذلك مما يلزم في الإجراءات القضائية، حتى أنه أصبح من الممكن الحديث عن المحكمة الإلكترونية أو الإجراءات الإلكترونية، وفي ذلك ذهبت بعض التجارب المقارنة.
فقد ذهبت بعض التجارب فعلا إلى رفع المادية عن إجراءات المحاكم بما في ذلك استدعاء المتقاضين بالوسائل الإلكترونية وتمكين المحامي من تقديم عريضة الدعوى إلكترونيا أو الترافع على الخط وحتى الحكم عن بعد، أو التنفيذ المباشر (المزاد العلني المباشر)، وأصبح للشبكات المعلوماتية دور في التواصل بين وزارات العدل بغاية البحث عن الجريمة عبر الوطنية بتبادل المعلومات والكشف السريع عن المضامين المخالفة وانجاز الموجبات الإجرائية للتعاون الدولي عن بعد (تبليغ استدعاء أو الإعلام بعريضة وأوراق الدعوى). وأصبح الحديث متواترا عن الهوية الإلكترونية أو بطاقة التعريف الإلكترونية.
فلا يمكن الحديث في نهاية الأمر عن الممارسة القضائية الإلكترونية الفعلية إلا إذا أمكن ربط المؤسسات القضائية والمؤسسات المساعدة للقضاء أو المتداخلة (الضابطة العدلية وعدول الإشهاد والمحامون والخبراء) والمتقاضين إلكترونيا وأنجزت جميع الأعمال الإجرائية عن بعد انطلاقا من رفع الدعوى أو العريضة إلى غاية صدور الحكم وإتمام التنفيذ في المجالين المدني أو الجزائي مع إمكانية أن تتخذ القرارات مباشرة من الهيئة المختصة. كذلك مع توفر شروط السرية والآمان والسلامة.
لكن الواقع بالتجربة التونسية، وفي أغلب البلدان، أقل من ذلك بكثير، فقد انحصرت الممارسة القضائية في رقن الأحكام من قبل كتبة المحاكم ومن بعض القضاة والتعويل على المنظومات المعلوماتية على مستوى المحاكم الابتدائية والاستئنافية ومحكمتي التعقيب والعقارية المركزية وكذلك المحكمة الإدارية، ثبت أنها تشكو من عدة نقائص تحتاج إلى مراجعة وتحيين لجعلها تواكب تطور الإجراءات وتفصيلاتها. وبقيت بعض التطبيقات في مراحلها الأولية، فلم تمر مواقع المحاكم إلى الممارسة الفعلية ولم تنجز قواعد البيانات ولم يسبق تنظيم فقه المحاكم بما في ذلك فقه قضاء محكمة التعقيب وذلك إلى حدود سنة 2018 حيث تم التفكير في موقع خاص بالمحكمة العليا، وقد تم إنشاؤه فعليا متضمنا لكل قرارت الدوائر المجتمعة ولأحدث القرارات التعقيبية الصارة عن الدوائر المنفردة وأهمها. ولم يسبق تنظيم الأرشيف الكترونيا بل إن بعض المنظومات لم تمر إلى العمل أصلا خشية أن يعتدى على سرية الأبحاث، كما هو الشأن بالنسبة إلى منظومة التحقيق. وتكاد تكون المعلوماتية غائبة في إجراءات التعاون الدولي القضائي. وبدت التجارب في بدايتها وكثرت المصاعب.
ورغما عن ذلك لا يمكن مطلقا الرجوع إلى الوراء، فرغم السلبيات التي تعكسها واقع المحاكم (الجزء الأول)، إلا أنه يتحتّم المضيّ قدما بالممارسة ومحاولة رفع النقص قدر الإمكان والتعويل على ما هو أنجع، ذلك أن التاريخ لا يرتدّ إلى البداية مطلقا. وبقدر تأخر الممارسة المعلوماتية ستتعمق الفجوة الرقمية مقارنة مع التطبيقات المقارنة والدولية وسيساهم ذلك في تأخر البلدان النامية وسيزيد في نمو البلدان الصناعية، وهي ما يعكس الرغبة في تجاوز الواقع بسلبياته والولوج إلى عدالة الكترونية حقيقية بخطى بطيئة ولكن بثوابت تقنية موثوق بها تفتح آفاقا لتطورات قانونية تستجيب للمنظومات المزمع احداثها (الجزء الثاني).
الجزء الأول: واقع صعب للممارسة القضائية الالكترونية بالمحاكم التونسية
يتميز واقع المحاكم التونسية بالاعتماد المكثف للورق مما يترتب عنه من إمكانبة الضياع وازدحام فضاءات العمل بالملفات وبطء البحث عن الملفات.
علاوة على نقص في الموارد المادية والبرمجيات والتي تتميز بمنظومات وتقنيات وبنية تحتية غير حديثة، وهندسة تقنية لا مركزية في الغالب من خلال منظومة جزائية ومنظومة مدنية ومنظومة التصرف الالكتروني في الوثائق ...
ويتسم واقع المحاكم بغياب التداخل والاندماج بين مكونات وعناصر النظام المعلوماتي. ويبرز ذلك من خلال غياب المراجع المشتركة بين المحاكم وبين المنظومات. إضافة لعدم توفير إحصائيات آلية وجداول منظمة. وبغياب تبادل البيانات بين الأنظمة المعلوماتية الخارجية. ويبرز من خلال عدم تطابق البيانات بين جميع الأطراف المتداخلة وغياب مراجع مشتركة وطنية.
ولا تبدو المنظومات الحالية قادرة على الاستجابة لمتطلبات الممارسة الالكترونية. فالمنظومة المدنية قاصرة على اسداء الخدمات الالكترونية بين المتدخلين في منظومة العدالة من قضاة ومحامين ومتقاضين وكتبة وعدول تنفيذ وخبراء عدليين وإدارات وغيرهم.
فالمنظومة المدنية الحالية تُعنى بالتصرف ومتابعة القضايا المدنية وهي مستغلة في جميع المحاكم (التعقيب، 12 محكمة استئناف، 28 محكمة ابتدائية، 39 محكمة ناحية). ولا يمكن الحديث عن إجراءات مرقمنة رغم ما توفره المنظومة المدنية من الخدمات من بينها:
- الاستدعاءات، شهائد النشر، شهادة في نص الحكم، مطالب الاستئناف، شهادة في الاستئناف، بطاقات الجلب...
- ارشاد المتقاضين عن القضايا عبر مكتب الارشاد.
- تحيين الملفات (تأخير جلسات الاستماع، تقديم تقارير...)
كما أن المنظومة الجزائية الحالية لا تتوفر بها مقومات الرقمنة والشروط التقنية للتعامل الالكتروني بين المداخلين في المنظومة من محاكم وسجون وضابطة عدلية ومحامين ومتهمين.
تعنى المنظومة الجزائية بالتصرف ومتابعة القضايا الجزائية وهي مستغلة في جميع المحاكم وتشمل المنظومة الجزائية العديد من الاجراءات المعتمدة في المجلة الجزائية مثل: مكتب الضبط، النيابة، الدائرة الجناحية، قاضي الأطفال، تنفيذ الأحكام
وتتضمن المنظومة الجزائية العديد من الخدمات مثل:
- حماية الملفات وتحديد نطاق النفاذ إلى المنظومة
- ارشاد المتقاضين حول مدى تقدم ومسار القضايا عبر مكاتب الارشاد المحدثة بالمحاكم
- استخراج العديد من الوثائق مثل الاستدعاءات، الاعلامات، شهادة في نص الحكم، ...
- طبع مطالب الاستئناف، مطالب الاعتراض، مناشير التفتيش، شهادة كف التفتيش، مناشير التفتيش وايقاف التفتيش، شهائد الحفظ...
- بحث متقدم ومتعدد الاختيارات لمختلف القضايا.
ولا ترقى تلك الممارسات إلى تطوير السياسة الجزائية ورقمنة إجراءاتها. والسياسة الجزائية ليست إعمال السياسة الحكومية في الميدان القضائي عن طريق النيابة العمومية، بل هي مجموع القوانين والتدابير الإجرائية الملموسة التي يقع من خلالها الإجابة عن الظاهرة الإجرامية وإيجاد الحلول الناجعة للحيلولة دون وقوعها، ومعالجة آثارها. ولا بد هنا من استحضار المعطى الأساسي المتمثل في صدور دستور 27 جانفي 2014 الذي أعاد بناء أسس ودعائم دولة الجمهورية الثانية. هذا البناء يستوجب لقيامه تنزيل خيارات الأحكام الدستورية على مستوى التشريع، سواء بسن الجديد، أو بتصحيح القديم الذي لم يعد يتلاءم معها حتى تستطيع الدولة مجابهة المدّ الإجرامي داخل المجتمع بالنجاعة والفعالية المطلوبة.
فالعلاقة بين الدستور والسياسة الجزائية تفترض التطابق، لتعلقها بحقوق الأفراد وحرياتهم، ولكونها المرآة التي تعكس طبيعة النظام السياسي في الدولة، ومقياسا للحكم على عدالة القضاء وصمّام أمان ضدّ الظلم والتعسّف.
ورغم إقرار الدستور الجديد لحقوق موجودة وتكريسه لأخرى جديدة، إلا أن ذلك غير كافي، بل ينبغي تفعيلها وعدم النيل من جوهرها، وهو ما يجعل من تنقيح العديد من النصوص بالمراجعة والإصلاح مسألة ملحّة وحتمية. هذا الإصلاح يجب أن يتأسس على فكرة إيجاد موازنة رصينة بين مصلحتين، مصلحة المجتمع في مكافحة الجريمة وتوقيع العقاب على مقترفيها. ومصلحة المتهم في محاكمة عادلة من خلال نظام إجرائي يضمن حق الدفاع وعدم المساس بالحرية. وهذا النظام الاجرائي يجب أن يتميز بالفاعلية والنجاعة عبر تركيز منظومات جزائية متطورة من الناحية التقنية تتميز بالمردودية، ومؤهلة نظريا وعلميا لمجابهة التطور النوعي والكمي للظاهرة الإجرامية دون أن تقصي في اعتبارها هاجس تجسيم التوازن بين مصلحة المجتمع ومصلحة المتهم، تحقيقا من وراء ذلك لعدالة ناجزة.
فالكل يسلم بأن العدالة الجزائية بطيئة، مكلفة ومعقدة، فعدد القضايا كبير، يقابله نقص فادح في عدد القضاة والإطار الإداري من كتبة وأعوان وتقنيين وغيرهم، عمّقه إحداث محاكم استئناف جديدة، إذ تطلّبت هذه الإحداثات توفير إطار قضائي وإداري لمباشرة العمل بها دون وجود إنتدابات بالحجم المطلوب، الأمر الذي يتسبب في إفراغ عديد المحاكم لسد الشغور والحال أنها بطبيعتها تشكو نقصا مما يزيد في تأزم الأوضاع. هذا إلى جانب نقص وسائل االعمل اللازمة، وضعف التجهيزات الرقمية بالمحاكم وصعوبة الوصول إلى المعلومة القضائية، وانعدام التواصل بين المتداخلين في المنظومة الجزائية في أوقات قياسية وبأيسر السبل التي تضمن سرية المعطيات ونجاعة التصدي للجريمة.
من جهة أخرى يتبين قصور المنظومة الإجرائية من خلال خروج بعض الهياكل المؤثرة في عمل العدالة هيكليا عن القضاء. ذلك أن الطرف الرئيسي الذي يتعامل معه القضاء الجزائي بشقيه الاستقرائي والحكمي، هم أعوان الضابطة العدلية، فنجاعة المنظومة الإجرائية مرتبطة أشد الارتباط بنجاعة عمل الضابطة العدلية. وبما أن أعوان الضابطة العدلية تابعين هيكليا لوزارة الداخلية فإنهم لا يخضعون لأية تبعية قانونية للسلطة القضائية، ولا تتوفر قنوات التواصل الرقمي التي تسمح بتذليل الصعوبات الناشئة عن الوحدة الهيكلية، إذ تجد فإن الهيئات القضائية عناءً كبيرا وانتظارا لا مبرر له للظفر ببطاقات سوابق المتهمين، كان من الممكن تداركها بإرساء منظومة الكترونية مشتركة. وهي وضعية غير سليمة وغير منطقية عقّدت عمل القضاء وعطّلته عن البت في الملفات في أجل معقول باعتباره إحدى ضمانات المحاكمة العادلة. (ويتطلب الأمر أيضا التفكير في ترشيد وعقلنة التجريم باعتماد سياسية جنائية عقلانية تجرم الأفعال الخطيرة الأكثر تهديدا ومساسا بالنظام العام، فضلا على إعادة تصنيف الجرائم وإخراجها عدد منها من دائرة تعهد قاضي الحقيق، تخفيفا للعبء المحمول عليه، مع تكريس مؤسسة القاضي المنفرد فيما كانت عقوبته أقل من خمس سنوات، كمراجعة اختصاصات دائرة الاتهام إن تعذر حذفها وتعويضها بمؤسسة قاضي الحريات والإيقاف أسوة بالقانون الفرنسي، مع ضرورة إدخال تغيير عميق للنموذج التونسي المتعلق بالطعون في الأحكام الجزائية، وذلك بترشيدها وتنظيمها.وكذلك بالنسبة لمنظومة مناشير التفتيش ومؤسسة الجبر بالسجن بحذفهما في المخالفات والجنح البسيطة).
المنظومة القضائية العدلية التونسية عامة، والجزائية بصفة خاصة تتميز بمسحة شكلية وبإجراءات كثيرة وطرق طعن متعددة وهو ما يَحدّ من حسن سير المرفق العام للعدالة ويشجع على نزعة الخصام. فتكثيف التواجد التشريعي ذاته بالإفراط في التجريم والعقاب، أو ما يعبر عنه بالتضخم، هي أولى الأسباب المؤدية إلى ضياع العدالة، إذ لا يكاد يخلو أي نص قانوني جديد من جرائم وعقوبات وإجراءات خاصة بتتبعها، فأصبحت النصوص الإجرائية موزعة ومشتتة يصعب الالمام بها والوصول إليها، مما يجعلها تهدد الأمن القانوني مع ما يتبعه من تفويت الوصول الناجع إلى العدالة. على هذا النحو يتطلّب الأمر أولا إباحة بعض الأفعال وإخراجها من دائرة التجريم، والإسراع ثانيا بإخراج مدونة جنائية جامعة لجميع النصوص القانونية المتناثرة.
ولتجاوز العوائق الهيكلية والوظيفية المكبّلة للعدالة، لا بد من اعتماد الإعلامية من أجل تحقيق المزيد من الكفاءة والفعالية والسرعة في فض النزاعات بأدنى جهد وأقل تكلفة، وهي فوق ذلك تمثل أداة إحصائية فعالة تخول رفع مستوى الحوكمة واتخاذ القرارات الأنسب والأمثل في أحسن الآجال، وتسهل الوصول إلى المعلومة القضائية بمتابعة مسار ومآل القضايا من المحامين والمتقاضين بصفة مباشرة.
وأمام الارتفاع المهول في مؤشرات عدد المساجين المتزامن مع الارتفاع المطّرد لظاهرة الجريمة البسيطة وارتفاع حالات العود إليها آن الأوان لإعلان إفلاس أسلوب سلب الحرية كعنصر أساسي معول عليه بالدرجة الأولى في الحد من ظاهرة الجريمة، ومن ثمة إعادة تموضعه الأصلي كمجرد تدبير استثنائي لا يلجأ إليه إلا في حالات وبشروط خاصة، وبالمقابل فتح المجال أمام بدائل وأساليب جديدة لخوض غمار هذه المواجهة. وقد حاول التشريع التونسي مؤخرا مسايرة السياسات الجزائية المقارنة بمقتضى المرسوم عدد 29 لسنة 2020 المتعلّق بنظام المراقبة الإلكترونية في المادة الجزائية. وكذلك المرسوم عدد 12 المؤرخ في 27 أفريل 2020المتعلق بإتمام مجلة الاجراءات الجزائية الذي منح السلطة القضائية امكانية استعمال وسائل الاتصال السمعي البصري في المحاكمة الجزائية أو ما يُعرف بالمحاكمة عن بعد وذلك على إثر اعلان منظمة الصحة العالمية لوباء كورونا المستجد(كوفيد-19) وباءً عالميا. وهي نصوص تعد بتطوير المنظومة الجزائية ومزيد التعويل على الرقمنة تنفيذا لمشروع تونس الرقمية الذي يستبطن آفاق مستقبلية واعدة للممارسة القضائية الالكترونية.
الجزء الثاني: آفاق مستقبلية واعدة للممارسة القضائية الالكترونية بالمحاكم التونسية
تنفيذا لبرنامج رقمنة العدالة فقد تم قطع عدة مراحل لتطوير المنظومات الالكترونية والقياسات المرجعية الموحدة. وقد تمثلت أساسا في قاعدة المقاييس المرجعية الموحدة. وهي منظومة تضم كل البيانات المشتركة والمستعملة من قبل جميع منظومات وزارة العدل. وترمي أساسا إلى توحيد كافة البيانات المشتركة بن المنظومات، وتسهيل تبادل وتحيين المعطيات بين المنظومات، كضمان جودة المعلومات منه خلال اعتماد مصدر وحيد للمعلومة. مع ضرورة إدراج كل معلومة تستعمل من منظومتين على الأقل. وقد تم في هذا المجال مراجعة جميع الجرائم وتحيينها وتوحيدها وادماجها في المنظومة الجزائية.
وتتمثل المنظومة العقارية في نظام معلوماتي في المادة العقارية متكامل سيمكن من معالجة الملفات والقرارات، ورقمنة الوثائق المكونة للملف ومتابعته منذ انطلاقه مرورا بجميع درجات التقاضي الى ختم الملف وتوجيهه إلى الخزينة واستخراج نصوص الأحكام باستعمال المسارات workflow.
وتتجسد المنظومة المدنية في شكل نظام معلوماتي في المادة المدنية متكامل سيمكن من معالجة الملفات والقرارات، ورقمنة متابعة الاجراءات باستعمال المسارات Workflowمنذ انطلاق الملف مرورا بدرجات التقاضي (ابتدائية، ناحية، استئناف، تعقيب) وتوجيه الملف إلى الخزينة واستخراج نصوص الأحكام. وهي الآن في المرحلة الثالثة وهي مرحلة التطوير.
أما المنظومة الجزائية فإنها تبرز من خلال نظام معلوماتي في المادة الجزائية متكامل سيمكن من معالجة الملفات والقرارات ورقمنة متابعته باستعمال المسارات Workflowمنذ انطلاق الملف بالنيابة مرورا بدرجات التقاضي (ابتدائية، ناحية، استئناف، تعقيب) إلى توجيه الملف إلى الخزينة واستخراج نصوص الأحكام. وهي الآن في مرحلة التركيز في المحاكم النموذجية بتونس وأريانة وبنعروس ومنوبة ليقع تعميمه بعد ذلك على جميع المحاكم. وقد تم الشروع في عمليات التحسيس بتكوين 256 مكوّنا من كتبة محاكم وفنيي اعلامية على استعمال المنظومة الجديدة. ويتم الآن تهجير جميع بيانات ملفات القضايا الجزائية من 38 منظومة على امتداد عشرين سنة إلى المنظومة المركزية الموحدة.
كما تم تطوير منظومة الخدمات JDoc وهي توفر خدمة تجميع القرارات والأحكام الناتجة عن المنظومة الجزائية الجديدة مما سيمكن من تجميع الأحكام بصفة الكترونية كتجميع فقه القضاء وتسهيل الولوج إليه، وتمكين مصلحة الأحكام من منظومة مستقلة لخدمات الأحكام تخفيفا لضغط الولوج إلى المنظومة الجزائية خاصة وأنّ الملف الورقي يكون حينئذ بالخزينة.
وتطوير منظومة j.sign، وهي منصة للإمضاء الالكتروني لجميع الوثائق الالكترونية، مؤمنة وتستعمل أحدث آليات السلامة المعلوماتية، وستمكن أساسا من تسهيل عملية تبادل الوثائق، والتقليل من الاستعمال الورقي للوثائق، كتأمين حفظ الوثائق في النسخة الالكترونية. وقد تم اقتناء خمسة عشر ألف امضاء الكتروني تمهيدا لاستغلالها.
علاوة على منظومة الترابط مع وزارة الماليةjFIN، والمتمثلة في إنشاء خدمة تواصل بين المنظومة الجزائية حاليا والمنظومة المدنية لاحقا مع منظومة رفيق لوزارة المالية في إطار تسهيل اجراءات تسجيل الأحكام. وتتمثل الخدمة أساسا في:
-إتمام اجراءات اعلام القباضات بالخطايا وأحكام العقوبات المالية بتمكين القباضة من الاطلاع على أصل الحكم عبر منظومة jDOC وارسال عدد رفيق إلى كاتب المحكمة دون اللجوء إلى تبادل الأوراق.
-تسهيل اجراءات التسجيل ممّا يمكن المحامي من الاتصال بالقباضة مباشرة لتسجيل الحكم دون المرور بالمحكمة لاصطحاب نسخة ورقية للاستظهار بها لدى القباضة. وهذا المشروع في مرحلة التطوير والتجربة في انتظار تفعيله.
وتشترط المنظومة رقمنة أصول الاحكام ودفاتر عدول الاشهاد، وقد تم تركيز مشروع رقمنة الأحكام ودفاتر عدول الإشهاد بـ 9 محاكم استئناف و27 محكمة إبتدائية على ثلاث دفعات. وتنفيذا للمشروع المذكور تم اقتناء تجهيزات الإعلامية الخاصة بهذا المشروع وعددها 76 حاسوب و40 طابعة و24 موزع و24 ماسحة ضوئية و24 واقي صدمات كهربائية،
ولضمان حفظ البيانات واستمرارية العمل وقع اضافة مشروع منظومة الاستغلال المركزي لرقمنة الأحكام ودفاتر عدول التنفيذ جاري تركيزها.
وتتمثل الأهداف على المدى المتوسط في تغيير التشريعات لضمان ملاءمتها مع المنظومات الرقمية تمهيدا لتمكين المحامين من استخراج نسخ الأحكام من أيّ محكمة بكامل تراب الجمهورية، كتمكين العدول من الاطلاع على الدفاتر من مكاتبهم، ضمانا لسرعة الإجراءات القضائية وتحقيقا لجودة العدالة.
إن المتأمل في مشروع مجلة القضاء الإداري بالباب الثاني منها فقد ورد تحت عنوان " في نظام التقاضي الالكتروني". وتضمن فصول تُنظم اجراءات التقاضي الإلكتروني أمام المحكمة الادارية نستعرضها من باب تعميم الفائدة.
الفصل 14: يُحدث نظام الكتروني يُؤمّن التقاضي عن بعد أمام محاكم القضاء الإداري.
تؤمّن المواصفات الفنية للنظام الالكتروني موثوقية وسلامة وسرية التبادلات الالكترونية وغيرها من الإجراءات. كما تضمن اثبات تاريخ وتوقيت إيداع الوثيقة الالكترونية باعتماد ختم التوقيت الالكتروني ويكون لختم التوقيت المذكور حجية قانونية لإثبات التواريخ.
وتُضبط المواصفات الفنية للنظام الالكتروني وشروط وإجراءات استغلاله بأمر حكومي باقتراح من الرئيس الأول للمحكمة الإدارية العليا.
الفصل 15: يؤمّن النظام الالكتروني للتقاضي عن بعد التبادل اللامادي للإجراءات وخاصة منها تقديم وتسجيل الدعاوى وتبادل التقارير وإجراءات التحقيق وإجراءات المرافعة والمفاوضة وإصدار الأحكام.
ويؤمّن النظام الالكتروني للتقاضي عن بعد، عند الاقتضاء، استخدام وسائل التواصل السمعي البصري لتأمين الحضور عن بعد.
ويعتمد الامضاء والختم الالكتروني في مختلف الإجراءات المعتمدة أمام محاكم القضاء الإداري وخاصة منها امضاء محاضر الجلسات والأحكام.
تدرج الأحكام بالنظام الالكتروني بعد امضائها وختمها إلكترونيا.
الفصل 16: تعتبر العرائض والمذكرات والمرفقات والاستدعاءات والأحكام وكافة الإجراءات الأخرى المتبادلة عبر النظام الالكتروني صحيحة ولها نفس الحجية التي تتمتّع بها الوثيقة الورقية.
ويمكن للمحكمة، بصفة استثنائية، أن تأذن لمن قدّم الوثيقة عبر النظام الالكتروني أن يُدلي بها في صيغة ورقية.
الفصل 17: تتم إجراءات التقاضي أمام القضاء الإداري وجوبا عبر النظام الإلكتروني تحت طائلة عدم القبول.
ويمكن للمتقاضين من غير الهياكل العمومية وغير الممثلين بواسطة محام الانتفاع بالمساعدة الفنية من المصالح المختصة بمحاكم القضاء الإداري في اعتماد النظام الالكتروني للتقاضي.
الفصل 18: تُدرج بالنظام الالكتروني للتقاضي عن بعد العناوين الالكترونية المهنية للهياكل العمومية والمحامين والخبراء والعناوين الالكترونية للمتقاضين.
الفصل 19: تُعيّن الدائرة المتعهدة والقاضي المقرر في القضية بواسطة النظام الالكتروني.
يمكن، بصفة استثنائية، وكلما وجدت أسباب جدية تستوجب ذلك، تغيير الدائرة المتعهدة أو تغيير القاضي المقرر، بمقتضى قرار معلّل يُدرج بالنظام الالكتروني.
الفصل 20: يؤمن النظام الالكتروني الترابط البيني بين مختلف محاكم القضاء الإداري.
ولا يجوز رفع نفس القضية أمام أكثر من المحكمة.
وفي صورة رفع نفس القضية أمام أكثر من محكمة اعتبرت القضية المقامة أولا ويشطب على القضية الأخرى ما لم يدل المعني بالأمر بما يفيد تخليه عن الدعوى الأولى في أجل لا يتجاوز الشهر من تاريخ تقديم القضية الثانية".