بقلم رابحة الغندري

اتّفاقيّة سنغافورة بشأن الوساطة: تكون أو لا تكون ؟¹

رابحة الغندري: أستاذة محاضرة بكليّة الحقوق والعلوم السّياسيّة بتونس - جامعة تونس المنار.

     

 1- "أكون أو لا أكون، هذا هو السّؤال"، لا تزال هذه العبارة التي ناجى فيها "هاملت" نفسه2 تختزل التّردّد في مختلف معانيه اللّغويّة من تأرجح وتعثّر وكذلك من أبعاده الوجوديّة من خلال ما يعكسه من عدم قدرة على اتّخاذ القرار وحسم الأمور3. يبدو أنّ هذا السؤّال الوجوديّ قد أخذ صياغةً مختلفةً من قبل الدّول التي لم تُصادق بعد على اتّفاقيّة سنغافورة بشأن الوساطة، "فهل تُصادق عليها أو لا تُصادق، هذا هو السّؤال".

ويبدو أنّ الدّولة التّونسيّة لم تجد جوابا بعد عن هذا السؤال نظرًا إلى عدم مصادقتها على هذه الاتّفاقيّة إلى اليوم.

2- تندرج دراسة اتّفاقية سنغافورة ضمن دور التّحكيم والوسائل البديلة لفض النّزاعات ذات الصّلة بالاستثمارات، لكنّها تتميّز بتنظيمها الوساطة الدّوليّة كآليّةٍ لها من الخصوصيِّة ما يميّزها عن التّحكيم ومن الاستقلاليّةِ ما يجعلها متفرّدة عن بقيّة الوسائل البديلة لفض النّزاعات والتي عادة ما ترد في صيغة الكمشة المجهولة.

3- يمكن تقديم هذه الاتّفاقيّة بأنّها اتّفاقيّة الأمم المتحدّة بشأن اتّفاقات التّسوية الدّوليّة المنبثقة عن الوساطة، والمعروفة باسم "اتّفاقية سنغافورة بشأن الوساطة". سُميّت كذلك لتوقيعها خلال حفل أقيم بهذه الدّولة التي كانت أول من صادق عليها. ولقد تمّت المصادقة على هذا الصّك الأمميّ في 18 ديسمبر 2018، ودخلت حيز التّنفيذ في 12 سبتمبر42020 .

1-3- تمّ تحرير هذه الاّتفاقيّة في أصل واحد تتساوى فيه نصوصه الانجليزية، والفرنسيّة والرّوسيّة والصّينية والاسبانيّة والعربيّة (وهي اللّغات الستّ المعتمدة في الأمم المتحدّة). ويكتسي هذا الأمر أهميّة بالنّسبة إلى الدّولة التّونسيّة التي تعتمد العربيّة لغةً رسميّةً لصياغة تشريعاتها5 لأنّه سيجنّبها مساوئ ترجمة منطوق أحكام6 هذه الاتّفاقيّة إذا ما قرّرت إصدار نصّ وطني يوائم أحكامها. كما وردت اتفاقية سنغافورة في 16 مادة، وهو ما يقوم دليلا على اعتمادها مبدأ الإيجاز7 وإن كان على حساب الوضوح والدّقة في بعض المواطن.

2-3- رغم تعدّد أهداف اتّفاقية سنغافورة بشأن الوساطة، فإنّه يمكن اختزالها في ثلاثة أهداف. يتمثّل الهدف الأوّل في سدّ ثغرات الاتّفاقيات السّابقة على غرار اتّفاقيّة نيويورك لسنة 1958 بشأن الاعتراف بقرارات التّحكيم الأجنبيّة وتنفيذها، أو كذلك اتّفاقيّة لاهاي لسنة 2005 بشأن اتّفاقات اختيار المحكمة. أمّا الهدف الثاني، فهو السعي نحو توحيد أسس إطار العمل لإنفاذ اتّفاقات التّسوية التي تتمّ عن طريق الوساطة المتعلّقة بالمعاملات التّجاريّة الدّوليّة. يبقى الهدف الثّالث، والذي تشترك فيه كلّ الاتّفاقيات الإقليميّة والدّوليّة، فيكمن في تسهيل التّجارة الدّوليّة من خلال جعل الوساطة وسيلة ناجعة وموثوق بها لحلّ النّزاعات إلى جانب التّحكيم والتّقاضي.

4- إنّ الحديث عن أهميّة اتفاقيّة سنغافورة بشأن الوساطة ذو شجون لازدواجية هذه الأهميّة زمنيّا وقانونيًّا. فزمنيًّا، تُترجم اتّفاقيّة سنغافورة أهميّة تواصل الحاضر مع الماضي من خلال دعم الثابتِ فيه من المكتسبات على غرار التّحكيم، وتعديل الشائب منه كالضبابيّة التي سادت – ولازالت- ملامح الوساطة. أمّا قانونيًّا، فتعكس هذه الاتّفاقيّة أهميّةَ تفاعل النّصوص الوطنيّة مع الصّكوك الأمميّة التي تسعى أن تكون الرّافعة الأساسيّة للنّهوض بالاستثمار عُمومًا، ولفض نزاعات المعاملات التّجاريّة الدّوليّة خصوصًا. فمن شأن هذه الاتّفاقيّة التّرويج للوساطة في الدّول التي تريد أن تكون لها واجهة أنيقة تضمّ أنجع بدائل فض النّزاعات.

5- لكن رغم هذه الأهميّة المزدوجة لاتفاقيّة سنغافورة حول الوساطة، فإنّ الدّولة التّونسيّة لا زالت متردّدة في حسم أمرها من المصادقة عليها. وهو ما يسمح بالتّساؤل حول إمكانية إقناع المشرّع التّونسيّ بالمصادقة على اتّفاقيّة سنغافورة بشأن الوساطة؟

إذا كان السّياق الواردة فيه اتّفاقيّة سنغافورة بشأن الوساطة هو سياق دوليّ بامتياز لتقنينه آلية وديّة لفض النّزاعات التّجاريّة الدّوليّة، فإنّ تأثيره على القوانين الوطنيّة لا يمكن نفيه. ولذلك يمكن إقناع المشرّع التّونسيّ بالمصادقة على اتّفاقيّة سنغافورة من خلال إبراز دورها التّأصيلي للوساطة (الجزء الأوّل)، علاوة على بيان دورها التّنظيميّ لهذه الآلية (الجزء الثاني).

I- دور تأصيليّ لاتّفاقيّة سنغافورة بشأن الوساطة

6- يُراد بالتّأصيل لُغةً تثبيت الأصل8، ويُراد به اصطلاحًا تثبيت الأصناف أو المؤسّسات القانونيّة المعبّرة عن مضمونه في مجال مُعيّن9. وهو الدّور الذي تقوم به اتّفاقيّة سنغافورة بشأن الوساطة. فمتى صادقت عليها الجمهورية التّونسيّة، يُصبح للوساطة أصل اصطلاحيّ من خلال واجب المواءمة10 بين النّصوص الوطنيّة والاتّفاقيات الدّوليّة المصادق عليها (أ)، ويستتبعُ هذا التأصيلَ الاصطلاحي تأصيلٌ لمضمون الوساطة بما يسمح بتمييزه عن مضامين لآليات أخرى قد تتقارب معه (ب).

أ- تأصيل مصطلح الوساطة ابتداءً

7- اقتضت المادة الأولى من اتّفاقية سنغافورة بشأن الوساطة أنّ "باب التّوقيع مفتوح أمام الدّول ومنظمّات التّكامل الاقتصاديّ الاقليميّ". ويُؤخذ من هذا المنطوق أنّ الدّعوة مفتوحة لكلّ الدّول للمصادقة على هذه الاتّفاقيّة، ومن بينها الجمهوريّة التّونسيّة، لإيلائها -كبقيّة الدّول- أهميّة قصوى لاستقطاب الاستثمارات تحفيزًا وحمايةً. ومن المؤكّد أنّ المصادقة على هذه الاتفاقيّة الأمميّة لا تحتاج إلى التّدليل على عوائدها، التي وإن كانت كُثْرُ، فيمكن اختزالها في عائدين أساسيّين.

1-7- يتمثّل العائد الأوّل في إسهام المصادقة على اتّفاقيّة سنغافورة في تحقيق بيئة اقتصادية آمنة لجميع الفاعلين الاقتصاديّين الدّولييّن من خلال تمكينهم من اعتماد الوساطة في تونس. وهو ما يُكسبها نقاطًا في مؤشر التّنافسّية مع بقيّة الدّول التي بلغ عددها إلى الآن 55 دولة11.

2-7- أمّا العائد الثّاني، فيتمثّل في تكريس صريح لمصطلح "الوساطة" في نصوص داخليّة. ويعدّ تكريس مصطلح "الوساطة" كما ورد في اتّفاقيّة سنغافورة، عائدًا قانونيّا يُحسب لفائدة المشرّع لأنّه يضمن من ناحية انسجام المنظومة القانونيّة12 لاستيعاب النّص الوطنيّ المصطلح الوارد في النّصّ الأمميّ تعريفًا وتنظيمًا. ولما يسمح به من رسم الحدود بين الوساطة بالمعنى الأممي، والوساطة المكرّسة بصفة مغلوطة في بعض النّصوص الوطنيّة تسميةً ومصدرًا. فمن حيث التّسميّة، لا يعدّ مصطلح "المصالحة" أو "التوفيق" مرادِفًا للوساطة لاعتماد كليهما بصفة لاحقة زمنيًّا لانتهاج التّقاضي وسيلةً لفضّ النّزاع (كالمصالح العائليّ في الطّلاق الذي يتولّى الصّلح بين الزّوجين إلاّ بعد نشر قضية في الطّلاق أمام القضاء)13. أمّا من حيث المصدر، فالوساطة تنشأ عن عقد يختار بموجبه الأطراف الوسيط، في حين أنّ المصالح العائلي يعيّنه قاضي الأسرة، بينما يُعيّن وزير الاستثمار الموفقّ الاستثماريّ14.

يبقى تأصيل مصطلح "الوساطة" كآليّة وديّة لفض النّزاعات التّجاريّة الدّوليّة رهين تقنين مضمونها كما ورد في اتّفاقيّة سنغافورة.

ب- تأصيل مضمون الوساطة انتهاءً

8- يتمّ تأصيل مضمون مصطلح الوساطة من خلال اعتماد تعريفه الموسّع كما ورد بمنطوق اتّفاقيّة سنغافورة، وبتعديل هذا التّعريف بما يجعله يستجيب أكثر لمبدأ الدّقة في التّعريف التّشريعيّ.

1-8- اعتماد التّعريف الموسّع للوساطة كما أوردته اتفاقيّة سنغافورة: اقتضت الفقرة الثّالثة من المادة الثانية والمخصّصة للتعاريف أنّه "يُقصد بتعبير "الوساطة" عمليّة، بصرف النّظر عن المسمّى المستخدم لها أو الأساس الذي تُجرى بناءً عليه، تسعى من خلالها الأطراف إلى تسوية وديّة للمنازعة القائمة بينها بمساعدة من شخص آخر واحد أو أكثر ("الوسيط") ليس له فرض حلّ على أطراف المنازعة".

2-8- يُلاحظ في تعريف اتّفاقية سنغافورة للوساطة أمران. أوّلهما أمر سلبيّ يتمثّل في عدم ضبط الطّبيعة القانونيّة للوساطة، كما يتوجّب ذلك في الصّياغة التّأليفيّة للتّعريفات الأمميّة والوطنيّة، فقد كان بالإمكان تعريفها بأنها عقد -وهي كذلك-، وهو ما سيُتخلص من النّظام القانونيّ المعتمد في نصّ الاتّفاقيّة وحتى في عنوانها الأصلي "اتّفاقية الأمم المتحدّة بشأن اتّفاقات التّسوية الدّوليّة المنبثقة من الوساطة، نيويورك، 2018 "اتفاقيّة سنغافورة بشأن الوساطة". أمّا الأمر الثاني، والذي يعدّ إيجابيًّا، فهو تولي التّعريف الأممّي للوساطة ضبط خصائصها المميّزة، والتي تمكّن من تمييزها عن بقيّة آليات فض النّزاعات.

3-8- تتميّز الوساطة في هذا التّعريف الأمميّ بثلاث خصائص. تتمثّل أوّل خاصيّة في المصدر الاتّفاقيّ للوساطة. فهذه الآلية عقد يحكمه مبدأ سلطان الإرادة تكوينًا من خلال خضوع هذه المرحلة إلى مبدأ الحريّة التعاقديّة، وتنفيذًا من خلال ضرورة احترام مبدأيْ الأثر النّسبيّ للعقد وقوّته الملزمة. وتتمثّل الخاصية الثّانية في المضمون الاتفاقيّ للوساطة والمتعلّق باختيار الوسيط والوسطاء، وهو ما يسمح بتمييز الوسيط عن الموفّق أو المصالح الذي لا تتدخّل إرادة المتنازعين في اختياره. أمّا الخاصيّة الثّالثة والأخيرة، فتتجلّى في الصّبغة الطّوعيّة لتنفيذ مضمون اتّفاق التّسويّة. وتُقيم هذه الصّبغةُ الدّليلَ على أنّ الوساطة آليّة وديّة لفض النّزاع بأتمّ معنى الكلمة، فهي تبدأ إراديّا وتنّفذ اختياريّا. ولذلك اعتبر بعض الشّراح أنّ تركيز اتّفاقيّة سنغافورة بشأن الوساطة كان على نتيجة مسار التّسوية أي "اتّفاق التّسوية" أكثر منه عن الوساطة في حدّ ذاتها15. وهو ما سيتأكّد من خلال عرض الأحكام التّنظيميّة للوساطة كما تضمّنتها هذه الاتفاقيّة.

II- دور تنظيميّ لاتفاقيّة سنغافورة بشأن الوساطة

9- سعت اتّفاقيّة سنغافورة إلى وضع نظام قانونيّ يتضمّن الأحكام التي تُحدّد مجال الوساطة (أ)، وتضبط واجبات الوسيط (ب).

أ- تنظيم اتّفاقيّة سنغافورة مجال الوساطة

10- اعتمدت اتّفاقيّة سنغافورة بشأن الوساطة عموميّة مجال اعتماد الوساطة الدّوليّة مبدأ (1) وتقييده استثناءً (2).

1-مبدأ تعميم الوساطة لفض جميع النّزاعات التّجاريّة الدّوليّة

11- أقرّت اتّفاقيّة سنغافورة مبدأ اللّجوء إلى الوساطة الدّوليّة كلمّا اتّسم النّزاع التّجاريّ بصبغة دوليّة. كما تولّت هذه الاتّفاقية تحديد المقصود من هذه الصّبغة الدّوليّة باعتماد أسلوب حصريّ عند تحرير أحكام الفقرة الأولى من مادتها الأولى باقتضائها أنّه "يُقصد بالصّبغة الدّوليّة على معنى أحكام الفقرة الأولى من المادة الأولى لاتّفاقيّة سنغافورة:

-أنّ مكانَيْ عمل اثنين على الأقل من أطرافه يقعان في دولتين مختلفتين، أو

-أنّ الدّولة التي يقع فيها أماكن عمل أطراف اتّفاق التّسوية مختلفة عن الدّولة التي يؤدّى فيها جزء جوهريّ من الالتزامات المفروضة بموجب اتّفاق التّسوية، أو الدّولة الأوثق صلة بموضوع اتّفاق التسوية".

2-إقصاء استثنائيّ لاعتماد الوساطة الدّوليّة في مجالات محدّدة

12- لم تترك اتفاقيّة سنغافورة مبدأ اعتماد الوساطة في كلّ النّزاعات الدّوليّة على إطلاقه، وقامت بتقييده في الفقرة الثانية من المادة الأول. فقد تولّت أحكام هذه الفقرة بصيغة قطعيّة وصريحة إقصاء تطبيق أحكام اتفاقيّة سنغافورة على اتّفاقات التّسوية " (أ) المبرمة لغرض تسوية المنازعات النّاشئة من معاملات يشارك فيها (المستهلك) لأغراض شخصيّة أو عائليّة أو منزليّة؛ (ب) المتعلّقة بقانون الأسرة أو الميراث أو العمل". رغم وجاهة المجالات المقصاة من مجال تطبيق اتّفاقيّة سنغافورة بشأن الوساطة الدّوليّة، إلاّ أنّ صياغتها لم تكن على الوجه الأفضل. فقد كان بالإمكان أحسن ممّا كان لو تمّ اعتماد معيار موضوعيّ لتقسيم المجالات المقصاة إلى اتّفاقات التّسوية المبرمة لغرض تسوية المنازعات النّاشئة عن معاملات ذات صبغة شخصية، واتفاقات التّسوية المبرمة لغرض تسوية المنازعات ذات الصّبغة الشّغليّة. لكن يمكن تبرير مثل هذه الصياغة بموجبات مبدأ الدّقة في صياغة النّصوص، والذي يتطلّب ضبط مجال الفرض بتعداد عناصره الخاضعة لحكم الإقصاء من مجال اتّفاقيّة سنغافورة.

ب- تنظيم اتّفاقيّة سنغافورة واجبات الوسيط

13- من أهمّ الأحكام التي كرّستها اتّفاقيّة سنغافورة بشأن الوساطة تلك المتعلّقة بدور الوسيط من حيث الصلاحيات المخوّلة له، ومن حيث الضوابط التي ينبغي أن يلتزم بها عند القيام بالوساطة.

1- صلاحيات الوسيط

14- سعت اتّفاقيّة سنغافورة إلى ضبط صلاحيات الوسيط بشكل يسمح للأطراف المتنازعة الاطّلاع على مأموريّة الوسيط الذي سيعهدون إليه بفض نزاعاتهم. لذلك عُهد للوسيط مساعدة ومرافقة الطّرفين لتقريب وجهات النّظر للوصول إلى حلّ يرضي كليهما. وهو يتمتّع في ذلك بحريّة معتبرة لتنظيم وتوجيه الوساطة بحيث يمكن له أن يخوض في جميع النّقاط الخلافيّة موضوع النّزاع سواءً كانت قانونيّة أو حتى متعلّقة بتطلعاتهم. كما يسعى الوسيط إلى إيجاد حلول مستحدثة ومبتكرة تختلف عن السائد من الحلول التي يقدّمها القاضي أو المحكّم لمحدوديّة صلاحياتهما.

2- موجبات الوسيط

15- الوسيط اسم من يتوسّط بين شخصين، ومن يتولّى الوساطة يُفترض فيه العدل أي لا يميل إلى أيّ من طرفيْ النّزاع، ولذلك وجب أن يمارس دوره بكل حياد واستقلاليّة وموضوعيّة. وهو ما عملت اتّفاقيّة سنغافورة على بلورته من خلال إيلاء ضوابط القيام بمأموريته خصوصيّة يبرّرها اختلاف المنطق الذي تقوم عليه الوساطة. لذلك دارت جميع هذه الموجبات حول فلك تأسيس الحلّ على تسوية وديّة جوهرها سلطان الإرادة. وهو ما يؤدّي إلى الابتعاد عن جدليّة المحكوم لفائدته والمحكوم ضدّه، فلا ينبغي أن يرتّب الحلّ لمركز طرف رابح ومركز لطرف خاسر. وبخلاف ذلك، فإنّ الحلّ لن ينفّذ طوعيًّا، وهو ما يرسم الحدود مع منطق الخصومة القضائيّة أو التّحكيميّة التي يكون الحلّ فيها واجب التّنفيذ.

ختاما، نجدّد دعوة المشرّع إلى التّفكير جديّا في المصادقة على اتّفاقيّة سنغافورة بشأن الوساطة. فهذه الآليّة هي الوحيدة التي تستجيب لتكييفها بالآليّة الوديّة لتسويّة النّزاعات التّجاريّة الدّوليّة لأنّ لبَّ الوساطة حريّةُ اعتمادها ولأنّ جوهرَها طوعيّةُ تنفيذها.

وبجمع الوساطة الحريّة والطّوعيّة، تكون اتفاقية سنغافورة قد أسهمت بصفة جديّة في تطوير مفهوم التّسويّة الوديّة لفض النزاعات التّجارية التي لا يخلو منها عالم المال والاستثمار.

 -------------------------------------------------------------------------------

1) أصلُ المقالِ مداخلةٌ أُلقيت في إطار الندوة الدّولية حول " الحماية القانونيّة للاستثمارات: دور التّحكيم والوسائل البديلة لفضّ النّزاعات "، والتي نظّمتها المؤسّسة الألمانية للتعاون القانونيّ الدّولي ووزارة الاقتصاد والتخطيط يومي 10 و11 جويلية 2025 بتونس العاصمة.
2) هي واحدة من أشهر عبارات المناجاة في دنيا الأدب العالميّ. كتبها الكاتب والشّاعر الإنجليزي وليام شكسبير منذ أكثر من أربعة قرون وأوردها على لسان شخصيّة هاملت أمير الدنمارك، في المسرحية التي حملت اسمه. انظر:
W. SHAKESPEAR, Hamlet ? Le Roi Lear, Traduction par Y. Bonnefoy, Gallimard, 1978.
3) جبرا محمد جبرا، المآسي الكبيرة (هاملت- عطيل- الملك لير-مكبث) لوليام شكسبير، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، الطّبعة الثّانية، 2000، ص. 22.
4) محمد سالم أبو الفرج، "اتّفاقيّة سنغافورة للوساطة ومنازعات الاستثمار الدّوليّ: دراسة تحليليّة للاتّفاقيّة وتحدّيات الوساطة في منازعات الاستثمار"، المجلّة القانونيّة، ص. 172.
5) الفصل 6 من دستور الجمهورية التّونسيّة الصّادر في 2022.
6) G. SNOW, « Le style législatif : question de droit ou de langue ? », in Les mots de la loi, N. Molfessis, (dir.), Ed. Economica, Paris, 1999, p. 89 et spéc. n°3, p. 92.
7) D. MOCKLE, « La réglementation intelligente : règlementer mieux ou règlementer moins », Revue française de droit administratif, 2015, 31 (6), 1255.
8) "يُقال استأصلتْ هذه الشّجر أي ثبت أصلها": الإمام العلاّمة ابن منظور، لسان العرب، المجلّد الأوّل، دار الحديث، القاهرة، 2006، باب الهمزة، ص. 162-163.
9) محمّد كمال شرف الدّين، "قراءة في المبادئ التّأصيليّة للقانون المدنيّ"، مسائل في فقه القانون المدني المعاصر، منشورات مجمّع الأطرش للكتاب المختص، تونس 2014، فقرة 1، ص. 49.
10) رابحة الغندري، علم التّشريع، دار الكتاب للنّشر، تونس، 2025، فقرة 102، ص. 159.
11) انظر مثلا القانون الاتّحادي رقم (6) لسنة 2021 في شأن الوساطة لتسوية المنازعات المدنيّة والتّجاريّة مع وجوب التّنويه إلى إدماج هذا النّص في المرسوم بقانون اتحادي رقم (40) لسنة 2023 في شأن الوساطة والتّوفيق في المنازعات المدنية والتّجاريّة.
12) H. REID, Dictionnaire de droit québécois et canadien, 5ème éd., Wilson & Lafleur, Montréal, 2015, note 23, « Harmonisation ».
13) الفقرة الثانية من الفصل 32 من مجلّة الأحوال الشّخصيّة "ولا يحكم بالطلاق إلاّ بعد أن يبذل قاضي الأسرة جهدا في محاولة الصّلح بين الزّوجين ويعجز عن ذلك".
14) الفصل 22 مكرّر من المرسوم عدد 68 لسنة 2022 المؤرّخ في 19 أكتوبر 2022 المتعلّق بضبط أحكام خاصّة بتحسين نجاعة إنجاز المشاريع العموميّة والخاصّة، الرّائد الرّسميّ عدد 114، والصّاد رفي 21 أكتوبر 2022، ص. 3121: " تُحدث لدى الوزير المكلّف بالاستثمار خطة الموفق الاستثماري، تعهد له مهمّة الوساطة قبل مرحلة التقاضي بين المستثمرين وهياكل العموميّة لفض الإشكاليات والخلافات التي يمكن أن تنشب".
15) C. DEVEAUX, « Entrée en vigueur de la convention de Singapour : de nouveaux horizons pour la médiation commerciale et internationale », Journal du droit international (Clunet), n°3, Juillet-Août-Septembre 2020, doctrine. 8.