رابحة الغندري: أستاذة محاضرة بكليّة الحقوق والعلوم السّياسيّة بتونس - جامعة تونس المنار.
1- توفّقَّت المؤسّسة الألمانيّة للتّعاون القانونيّ الدّوليّ بالشّراكة مع وزارة الاقتصاد والتّخطيط على تنظيم ندوة دوليّة حول موضوع "دعم وحماية الاستثمار" على مدى يومي 24 و25 سبتمبر 2024. ولم يكن مردّ هذا التّوفيق اختيار موضوع "ملأ الدّنيا وشغل النّاس" في هذا الظّرف الاقتصاديّ الصّعب بل لاختزال مضمونه السّياسة التّشريعيّة التي انتهجتها الدّولة التّونسيّة منذ عهد الاستقلال.
فلم يكن من خيار للدّولة التّونسيّة لتجاوز محدوديّة ثرواتها الطّبيعيّة إلاّ العمل على جذب المستثمرين من داخل البلاد وخارجها. وهو ما اقتضى ترجمة النّصوص القانونيّة هذه السّياسة التّشريعيّة القائمة على دعم وحماية الاستثمار.
2- الدّعم لغة هو تقديم السّند والعون لمواصلة التّماسك ومنع السّقوط2 . أمّا المقصود بدعم الاستثمار، فهو تقديم السّند للمستثمرين حتى تبقى الدّولة التّونسيّة وجهة تستقطب الاستثمارات وتحافظ عليها من خلال تحيين نصوصها القانونيّة وتنويع الحوافز القانونيّة الموجّهة للمستثمرين. فإعلاء سقف هذه الحوافز من شأنه أن يستقطب مزيد المستثمرين من ناحية، وأن يُحافظ على مواصلة ضخّ أموالهم في بلادنا وإقناعهم بعدم تحويل وجهة استثمارهم إلى دول تسعى بدورها إلى استقطاب المستثمرين من ناحية أخرى.
3- ولتناول هذا الموضوع الهامّ من جميع زواياه، سعى القائمون على هذه النّدوة الدّوليّة استقطاب العديد من المختصّين، تونسيّين وأجانب، لاستثمار معارفهم العلميّة وتجاربهم المهنيّة وليَدْلُو كلّ واحد منهم بدَلْوِه في كيفيّة دعم الاستثمار وحمايته. وهو ما ترجمته المداخلات العديدة كمًّا (عشر مداخلات) والثّريّة نوعًا من حيث تناولها، وطنيّا ودوليّا، أهمّ آليات دعم المستثمر المكرّسة في التّشريعات (الجزء الأوّل)، دون إغفال آليات حمايته عند حصول نزاع في الدّولة التي يستثمر فيها (الجزء الثّاني).
الجزء الأوّل: آليات دعم المستثمر في التّشريعات
4- تعدّدت آليات دعم المستثمر في التّشريعات الوطنيّة (الفقرة الأولى)، والتّشريعات المقارنة (الفقرة الثّانية).
الفقرة الأولى: آليات دعم المستثمر في التّشريعات الوطنيّة
5- بالرّجوع إلى التّشريعات الصّادرة في مجال الاستثمار، يُلاحظ أنّ المشرّع منح حوافز قانونيّة للمستثمر (أ)، كما أنشأ هياكل معيّنة لاستقطاب الاستثمار (ب)
أ- الحوافز القانونيّة الممنوحة إلى المستثمر
6- تتقاطع التّشريعات الوطنيّة الصّادرة في مجال الاقتصاد من حيث تناولها لآليات تحفيز المستثمر. ويكفي للتّدليل على هذا التّقاطع ما تضمّنه قانون الاستثمار بصفة أصليّة، وما تضمّنه قانون عقود الشّراكة بين القطاع العامّ والقطاع الخاصّ بصفة عرضيّة.
1-6- اعتمد المشرّع عند إصداره القانون عدد 71 لسنة 2016 المؤرّخ في 30 سبتمبر 2016 المتعلّق بقانون الاستثمار مقاربة شاملة من حيث تنظيم آليات تحفيز الاستثمار. فبالرّجوع إلى "المحاور الكبرى لقانون الاستثمار"3 ، تجّلت شموليّة هذه المقاربة من خلال التّوجّهات العامّة للمشرّع التي حكمت صياغة أحكامه. يتمثّل التّوجّه العامّ الأوّل في تكريس مبدأ حريّة الاستثمار بما يجعل من الحصول على التّراخيص استثناءً، وهو ما تطلّب إلغاء عدد كبير من التّراخيص التي كانت مُشترطة، إلى جانب تبسيطٍ في الإجراءات واختصارٍ في الآجال. ويبرز التّوجّه العامّ الثّاني من خلال تعميم حوافز الاستثمار على جميع القطاعات من تشغيل واقتصاد وجباية ومحاسبة وتنمية مستدامة، علاوة على التّرفيع في مقدارها. أمّا التّوجّه العامّ الثّالث، فهو توحيد لغة خطاب المشرّع الذي قرّر عدم التّمييز في المعاملة بين المستثمر الوطنيّ والمستثمر الأجنبيّ، وكذلك توحيد الجهة التي يُخاطبُها المستثمر حيث أُنشئ لهذا الغرض هيئة وحيدة مكلّفة بالتّعاطي مع المستثمرين.
2-6- يُعتبر القانون عدد 49 لسنة 2015 المؤرّخ في 27 نوفمبر 2015 المتعلّق بعقود الشّراكة بين القطاع العامّ والقطاع الخاصّ من أهمّ التّشريعات الاقتصاديّة التي كرّست أحكامُها حوافزَ قانونيّةً لدفع الاستثمار على غرار "الحقّ العينيّ الخاصّ"4 . فبعد أن أثبت هذا الحقّ العينيّ الخاصّ نجاعة في القانون المتعلّق بنظام اللّزمات5 ، أعاد المشرّع منحه إلى الشّريك الخاصّ عندما يتعاقد مع الشّريك العموميّ. وتتجلّى نجاعة هذا الحافز القانونيّ من خلال الدّور الذي يقوم به عند بداية المشروع وأثناء تنفيذه. فإقرار المشرّع منح الشّريك الخاصّ حقّا عينيّا خاصّا شبيها بحقّ الملكيّة على المنشآت والبناءات والتّجهيزات التي يحدثها على الملك العموميّ، من شأنه أن يحفّزه على الاستثمار نظرا إلى اعتبار ما يُضيفه الحقّ العينيّ الخاصّ من عناصر إيجابيّة إلى الذّمة الماليّة لشركة المشروع بمجرّد تنفيذها لعقد الشّراكة. هذا إضافة إلى إمكانيّة توظيف شركة المشروع رهنا عقاريّا على هذا الحقّ ضمانا للوفاء بالقروض التي يتطلّب تنفيذ عقد الشّراكة الحصول عليها عند استنفاذ المستثمر الأموال المرصودة لذلك المشروع.
ب-هياكل استقطاب الاستثمار
7- أوجد المشرّع هياكل عموميّة (1)، وشركات أهليّة (2) للقيام بدور هامّ لاستقطاب الاستثمار.
1-الهياكل العموميّة
8- تظافرت جهود الهياكل العموميّة المعنيّة بالاستثمار من أجل تحسين مناخه. ومن أهمّ هذه الهياكل التي تمّ تقديمها في هذه النّدوة وكالة النّهوض بالاستثمار الخارجيّ والهيئة التّونسيّة للاستثمار.
1-8- وكالة النّهوض بالاستثمار الخارجيّ: هي المؤسّسة العموميّة التي أنيط بعهدتها "دور في جلب الاستثمارات الخارجيّة المباشرة والقطاعات الواعدة"6 علاوة على دورها في النّهوض بالاستثمار التّونسيّ في الخارج. ولقد سعت هذه الوكالة إلى تحسين أداء دورها عبر موقعها على الواب، الذي باعتماده العربية والفرنسيّة والانجليزيّة، شكّل نافذة مطلّة على مناخ الاستثمار بتونس من خلال تقديم القطاعات ذات الأولويّة وبيان جميع الحوافز الجبائيّة والمنح الماليّة التي يمكن أن تستقطب المستثمرين الأجانب. ولقد ترجمت الإحصائيات المقدّمة تطوّرا تصاعديّا- طيلة الثلاث السنوات الأخيرة- لعدد المشاريع المنجزة في جلّ القطاعات من صناعة وخدمات وسياحة وفلاحة مع تفاوت ملحوظ لفائدة الصّناعة. كما تمّت ملاحظة اختلال التّوازن بين الجهات حيث تركّزت أغلب المشاريع في الشمال الشرقيّ وفي تونس الكبرى على حساب مناطق الجنوب بشقّيه الشرقيّ والغربيّ. غير أنّ إمكانيّة تدارك تفاوت الاستثمار في القطاعات وتدارك الاختلال بين الجهات يبقى أمرا ممكنا نظرًا إلى الدّور الذي تقوم به وكالة النّهوض بالاستثمار الخارجيّ من خلال حسن تسويق صورة تونس من حيث تميّز موقعها الجغرافيّ والاستراتيجيّ وتقدّمها في ترتيب الدّول المصدّرة لبعض المنتوجات الفلاحيّة والخدمات الطبيّة، كلّ هذا مع وعي بضرورة تجاوز الهَنات التي لا زالت تؤثّر سلبا على مناخ الاستثمار كالعمل على مزيد تحرير المبادرة الخاصّة وتكريس قواعد المنافسة النّزيهة والتّخفيف من عبء الإجراءات الإداريّة لانطلاق المستثمر في إنجاز مشاريعه.
2-8- الهيئة التّونسيّة للاستثمار: يُعنى هذا الهيكل العموميّ بتحسين مناخ الاستثمار من خلال متابعته و"تقييم إطار الاستثمار في تونس في ضوء التّجارب المقارنة"7 . ووفق ما ورد في تقريرها التّقييميّ لسياسة الاستثمار لسنتَيْ 2022-2023، يُمكن الوقوف على المقاربة التّقييميّة التي اعتمدتها الهيئة التّونسيّة للاستثمار للقيام بتشخيص موضوعيّ لمناخ الاستثمار ولتقديم التّوصيات اللاّزمة لمزيد تحسينه. فبالنّظر إلى التّجارب المقارنة وخصوصا بمراجعة أهمّ التّرتيبات العالميّة، يُلاحظ أنّ مناخ الاستثمار في تونس ما زال جذّابا ومُجديّا للمستثمرين الأجانب في ضوء المراتب التي احتلّها. وقد تمّ تفسير ذلك بثراء المنظومة التّشريعيّة للاستثمار في تونس والتي حاولت أن تستأنس بالتّجارب المقارنة لتقنين أهمّ آليات تحفيز الاستثمار من ناحية، وبكفاءة الخبرات التّونسيّة التي بوّأت تونس مكانة رائدة الاقتصاديات الافريقيّة في التّحوّل الاقتصاديّ من ناحية أخرى. غير أنّ هذه النّقاط الإيجابيّة التي تُحسب للفائدة مناخ الاستثمار في تونس لا يمكن أن تحجب بعض الصّعوبات التي ما زال يشكو منها المستثمرون. ولتخطي هذه الصّعوبات، قدّمت الهيئة التّونسيّة للاستثمار في تقريرها التّقييميّ عدّة توصيات من أهمّها التّوصية بتيسير النّفاذ إلى سوق الاستثمار بتونس ومن خلال تكريس فعليّ لمبدأ حريّة الاستثمار بما يترتّب عنه وجوبا التّقليص من عدد التّراخيص المطلوبة، وكذلك التّوصية بدعم البنيّة التّحتيّة العقاريّة من خلال تسهيل تغيير الصّبغة الفلاحيّة لبعض العقارات لإدماجها في الرّصيد العقاريّ المخصّص للاستثمارات، وأخيرا التّوصية بتطوير الخدمات الإدارية المقدّمة للمستثمرين من خلال رقمنتها.
2-الشّركات الأهليّة
9- استحدث المشرّع سنة 2022 "شركات أهليّة لتركيز منوال جديد للتّنميّة"8 معرّفا إيّاها بأنّها "كلّ شخص معنويّ تحدثه مجموعة من أهالي الجهة يكون الباعث على تأسيسها تحقيق العدالة الاجتماعيّة والتّوزيع العادل للثّروات من خلال ممارس جماعيّة لنشاط اقتصاديّ انطلاقا من المنطقة التّرابيّة المستقرّين بها". يُؤخذ من هذا التّعريف أنّ الغاية الجامعة بين البعدين الاجتماعيّ والاقتصاديّ لنشاط الشّركات الأهليّة، برّرت عدم إخضاعها إلى الأُطُرِ القانونيّة المألوفة سواءً في القانون العامّ الذي نظّم المؤسّسات العموميّة أو في القانون الخاصّ الذي نظّم الشّركات التّجاريّة والمدنيّة. وهو ما استوجب صياغة أحكام قانونيّة تراعي هذه الغاية على غرار منحها حوافز جبائيّة وماليّة لمدّة عشر سنوات من تاريخ تأسيسها، ومرافقتها -محليّا وجهويّا- في إيجاد تمويلات من البنوك والمؤسسات الماليّة التي أرادت دعم هذا المنوال الجديد للتنميّة لما قد يوفرّه من مواطن شغل وما يسهم فيه من حركيّة اقتصاديّة خصوصا في المناطق الدّاخليّة. تبشّر الإحصائيات الأولى لعدد الشّركات الأهليّة التي تأسّست على المستوى المحليّ والجهويّ بقدرتها على تركيز منوال جديد للتّنميّة، لكن تبقى هذه القدرة مشروطة بمزيد إحكام تنظيمها بما يضمن ديمومتها ويحمي حقوق الأشخاص المتعاقدين معها من بنوك وأجراء.
الفقرة الثّانية: آليات دعم المستثمر في التّشريعات المقارنة
10- أتاحت هذه النّدوة الدّوليّة الاطّلاع على تجربتين مختلفتين جغرافيّا حيث تمّت الاستفادة من التّجربتين الألمانيّة (أ)، والجزائريّة (ب).
أ-آليات دعم المستثمر في التّشريع الألمانيّ
11- يُعتبر التّشريع الألمانيّ من أهمّ التّجارب المقارنة في مجال تحسين مناخ الاستثمار بالنّظر إلى تأصيل المشرّع الألمانيّ الإطار القانونيّ للاستثمار في الثّوابت التي تقوم عليها دولة القانون، الأمر الذي سمح باعتبار هذا "الإطار القانونيّ عامل أساسيّ في دعم الاستثمار"9 . ولقد تمّ التّدليل على هذا الدّور الذي يقوم به الإطار القانونيّ من خلال احترامه مؤشّرات ثقة الفاعلين الاقتصاديّين في مناخ الاستثمار في الدّولة الحاضنة لمشاريعهم. يقوم الإطار القانونيّ الألمانيّ على ثلاثة مؤشّرات هامّة، وهي الأمن القانونيّ واستقلاليّة القضاء ومكافحة الفساد. فالأمن القانونيّ مؤشّر على وضوح النّصوص القانونيّة والذي يجعل من النّفاذ إليها ماديّا وذهنيّا أمرا متاحا إلى كلّ مُخاطَب بقانون تلك الدّولة أيّا كانت جنسيّة المستثمر. أمّا استقلاليّة القضاء، فهي المؤشّر الذي يعكس ثقة المستثمر في حصوله على حقوقه بحيث لا يخشى أيّ حيف عند نشوب نزاعات في الدّولة التي يستثمر فيها. يبقى في الأخير مؤشّر مكافحة الفساد، وهو مؤشّر مُعتمد من قبل العديد من المنظّمات الدّوليّة لترتيب مناخات الاستثمار بناءً على ما يتضمّنه الإطار القانونيّ للاستثمار من أحكام ردعيّة لمجابهة الفساد بجميع أنواعه.
ب- آليات دعم المستثمر في القانون الجزائريّ
12- حاولت المنظومة التّشريعيّة للاستثمار في الجزائر أن توفّر "بيئة استثماريّة آمنة وجذّابة "10 من خلال اعتمادها مقاربة شاملة لكلّ القطاعات الاقتصاديّة؛ ومنسحِبةً على كلّ الفاعلين الاقتصاديّين من أشخاص طبيعيّين وذوات معنويّة، جزائريّين وأجانب، مقيمين وغير مقيمين؛ وقائِمةً على تشريعات مُكرِّسة لمبادئ الأمن القانونيّ والمساواة والشّفافيّة. علاوة على استجابة قانون الاستثمار الجزائريّ إلى المعايير الدّوليّة عند صياغة أحكامه، فقد كرّس هذا القانون -باستحداثه "العقار الاقتصاديّ" كمفهوم جديد- آليّةً هامةً لتحفيز المستثمرين من خلال منحه لكل من يطلبه لإنجاز مشاريع عليه عبر منصة رقميّة جامعة لكلّ المطالب ومانعة لبقيّة المنصّات من هذه الصّلاحيّة. وهو ما يمكن أن يجذب المستثمرين وينافس بقيّة الدّول لأنّ منح عقار اقتصاديّ ليس بالأمر المتاح إلاّ لمن كانت له حافظة عقاريّة مهمّة ومتنوّعة وكانت له إرادة استغلال جميع المساحة الجغرافيّة للنّهوض بالاستثمار.
الجزء الثّاني: آليات حماية المستثمر في النّزاعات
13- نظرًا إلى طول الزّمن القضائيّ وما يستتبعه من تكاليف باهظة لفضّ النّزاعات التي يكون المستثمر طرفا فيها، ارتأى المشرّع تجنّب وقوع نزاع بصفة استباقيّة من خلال تكريس المسؤوليّة المجتمعيّة للاستثمار (الفقرة الأولى)، كما كرّس بدائل لفضّ نزاعات المستثمر عند ووقوعها (الفقرة الثّانية).
الفقرة الأولى: المسؤوليّة المجتمعيّة للمستثمر
14- عرّف المشرّع المسؤوليّة المجتمعيّة بأنّها "مبدأ تنتهجه المؤسّسات حرصا على ضرورة تحمّلها مسؤوليّة تأثير نشاطها على المجتمع والبيئة من خلال تبني سلوك شفّاف يعود بالفائدة على المجتمع جهويّا"11. ويُؤخذ من هذا التّعريف التّلازم بين المسؤوليّة المجتمعيّة للمؤسّسات والمسؤوليّة المجتمعيّة للاستثمار من حيث التّشارك في نفس القيم والقيام بنفس الدّور. فالمسؤوليّة المجتمعيّة للاستثمار تستوعب جميع القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة والقانونيّة والاقتصاديّة التي تنهض عليها المسؤوليّة المجتمعيّة للمؤسّسات، وتسهم هذه القيّم المرجعيّة في أخذ المستثمر بعين الاعتبار الاهتمامات الاجتماعيّة والبيئيّة والاقتصاديّة في أنشطة المؤسّسة التي سيستثمر فيها وفي تفاعلها مع المتدخلين على أساس طوعيّ. كما تقوم المسؤوليّة المجتمعيّة للاستثمار بنفس دور المسؤوليّة المجتمعيّة للمؤسسة خصوصا فيما يتعلّق بتطوير الموارد البشريّة12. فالتزام المؤسّسة بتوفير بيئة ملائمة للعمل من حيث تكافؤ الفرص والتّكوين المستمر والتّشجيع على التّجديد والابتكار والمساواة بين الأجراء من شأنه أن يوطّد العلاقة مع المؤسّسة من خلال شعورهم بالانتماء إليها. ولا يمكن لمثل هذه البيئة التي يطيب فيها العمل إلّا أن تدعم التّنمية المستدامة نظرا إلى ما توفرّه من مواطن شغل قارّة ومن تحفيز للبقاء فيها. وهو ما يجنّب المؤسّسة اللّجوء إلى القضاء لفضّ النّزاعات الشّغليّة النّاجمة عادةً عن الصّبغة الهشّة والوقتيّة لتشغيل الموارد البشريّة.
الفقرة الثّانية: بدائل فضّ النّزاعات
15- دعَّم المشرّع آليّة الصّلح الموجودة منذ صدور مجلّة الالتزامات والعقود -كأحد بدائل فضّ النّزاعات -(أ)، بآليّة جديدة متمثّلة في الموفّق الاستثماريّ (ب).
أ-الصّلح
16- نظّم المشرّع عقد الصّلح في مجلّة الالتزامات والعقود كآلية "لرفع النّزاع وقطع الخصومة"13 ، ثمّ ارتأى تعميم اعتماد هذه الآليّة لفضّ النّزاعات في العديد من المواد القانونيّة على غرار القانون التّجاريّ. ولقد كان تكريس "الصّلح في المادّة التّجاريّة "14 منسجما كثيرا مع متطلّبات المعاملات بين التّجار من سرعة ومحاولات التّسويّة عند حدوث الخلافات، والتي هي عادة كثيرة ومتنوّعة. وهو ما بوّأ القانون التّجاريّ ليكون مجالا رحِبا لاعتماد آليّة الصّلح القضائيّ وغير القضائيّ في حلّ النّزاعات بين التّجار. وتبعا لتعدّد تطبيقاته في الإطار القضائيّ أو خارجه، تمّ اعتبار آليّة الصّلح البديل الأمثل للحلّ القضائيّ لما تحقّقه من عدالة تفاوضيّة تفوق بكثير العدالة المفروضة. ولقد أسّست مزايا الصّلح وتعميم مجال اعتماده إلى المناداة بتكريس الصّلح مبدأ عامّا يطبّق لفضّ النّزاعات خصوصا تلك التي تنشأ في مجال الاستثمار.
ب- الموفّق الاستثماريّ
17- لمزيد تحسين مناخ الاستثماريّ أحدث المشرّع "خطّة الموفّق الاستثماريّ"15 بموجب المرسوم عدد 68 لسنة 2022 المؤرّخ في 19 أكتوبر 2022 المتعلّق بضبط أحكام خاصّة بتحسين نجاعة إنجاز المشاريع العموميّة والخاصّة. لم يكن إحداث خطّة "الموفّق" استحداثا لها نظرًا إلى تعدّد المجالات التي تمّ هندسة هذه الخطّة فيها، فمن الموفّقّ الإداريّ إلى الموفّق عائليّ إلى الموفّق البنكيّ وأخيرا إلى الموفّق الاستثماريّ. ويمكن تبرير اللّجوء المتزايد إلى هذه الخطة اعتبارها من ثوابت السّياسة التّشريعيّة في مجال فضّ النّزاعات حيث تمّ تدعيم المصالحة والتّحكيم -المكرّسين في قانون الاستثمار- ببديل ثالث هو الوساطة التي يقوم بها الموفّق الاستثماريّ. وتأكيدًا لاستقلاليّة هذه الآلية عن غيرها من الآليات الوديّة لفضّ النزاعات، أخضع المشرّع وساطة الموفّق الاستثماريّ إلى ضوابط هيكليّة وأخرى موضوعيّة. تتمثّل الضّوابط الهيكليّة في تعيين الموفّق الاستثماريّ لمدّة ثلاث سنوات قابلة للتّجديد بأمر باقتراح من الوزير المكلّف بالاقتصاد والتّخطيط بعد تنظيم مناظرة بالملفّات من بين الأعوان العموميّين المباشرين من ذوي الكفاءة في القانون والاستثمار وإجراءات الّتقاضي. ومن شأن مسار تعيين الموفّق الاستثماريّ القائم على مبدأ الشّفافيّة وتكافؤ الفرص أن يدعم استقلاليّته وحياده رغم إلحاق خطّته بديوان الوزير المكلّف بالاقتصاد والتّخطيط. أمّا الضوابط الموضوعيّة، فهي تنقسم إلى ضوابط تحدّد مجال تدخّله بإقصاء وساطته في المسائل المرتبطة بالنّزاعات الشّغليّة وفي القضايا المنشورة أمام المحاكم أو المعروضة على التّحكيم، وإلى ضوابط تحدّد كيفيّة قيامه بمهمّته بدايةً من قبوله مطلب الوساطة المقدّم اختياريّا من قبل الأطراف ودون لزوم دفع رسوم أو أتعاب، مرورا بدراسته الملفات المتعهّد بها في آجال مختصرة لا تتجاوز الثلاثين يوما، ووصولا إلى إعداد تقارير سداسيّة وسنويّة حول نتائج أعماله وتوصياته، وهو ما من شأنه أن يسمح بتقييم جدوى ونجاعة الوساطة التي يقوم بها الموفّق الاستثماريّ ومدى إسهامه الفعلييّ في تحسين مناخ الاستثمار من خلال الحلول الوديّة لفضّ النّزاعات المتعلّقة بالاستثمار.
يُستخلص من هذا التّقرير الختاميّ نجاح هذه النّدوة العلميّة حول دعم وحماية الاستثمار في تحقيق أهمّ أهداف تنظيمها وهما الخوض في واقع الاستثمار الذي يشكو من إشكاليّات عدّة والبحث في آفاق النّهوض به. لكن خلافا لإشكاليّات الاستثمار التي -وإن تشابهت في أغلب الدّول- تبقى متناهيةً لإمكانية حصرها، فإنّ الآفاق تظلّ غير متناهية لأنّ الأمل في ختام هذه النّدوة أن يتفوّق اللاّمتناهي على المتناهي.