تأتي هذه المداخلة في إطار تصور بنية الدولة في الدستور المرتقب، وهذا من خلال التركيز على نقطة أساسية وهي البحث عن النظام السياسي الأصلح للجزائر.
فإذا كانت الإنتخابات فعلا أداة لممارسة السيادة وآلية للتغيير في مؤسسات الدولة فإنّ ممارستها في ظل طبيعة النظام السياسي الحالي الذي يصنف على أنه نظام رئاسوي مغلق، سيؤدي لا محالة لتكرار تجربة العقدين الماضيين والتي تميزت بتركيز السلطات في يد مؤسسة رئاسة الجمهورية، في مقابل تهميش دور البرلمان والحكومة والمؤسسة القضائية، والمؤسسات الرقابية بصفة عامة، لهذا فإنّه لابد من التفكير في تبني نظام سياسي جديد في ظل الدستور المرتقب، وأمام إختلاف وجهات النظر بين من يدعو لتبني نظام برلماني محض، ومن يدعو إلى خلاف ذلك بتبني نظام رئاسي بالنظام الرئاسي، فإنّ الباحثين ومن خلال هذه المداخلة يحاولان التوفيق بين هذين المطلبين وتقديم مقاربة دستورية وقانونية حول النظام السياسي الأصلح للجزائر، وهذا من خلال الإشكالية التالية: ماهو النظام السياسي الأصلح للجزائر على ضوء المتغيرات السياسية التي عرفتها الدولة بعد حراك 22 فيفري 2019؟
وللإجابة عن الإشكالية التالية سيتم تقسيم المداخلة إلى مبحثين رئيسيين: بحيث نتناول في المبحث الأول: بنية الدولة الجزائرية تشخيص النظام السياسي الجزائري على ضوء دستور 1996 المعدل والمتمم، في حين نتناول في المبحث الثاني: البحث عن النظام السياسي الأصلح للجزائر.
في البحث عن النظام السياسي الأصلح للجزائر
تشكل دعوة رئيس الجمهورية عبد العزيز تبون إلى إرساء دستور جديد يجسد أمال الشعب الجزائري في بناء جمهورية جديدة فرصة سانحة أمام ضرورة التفكير في إعادة النظر بشكل جذري في آليات ممارسة السلطة في الجزائر، إذ كانت للممارسات القديمة والتي تميزت بتركيز الحكم في يد رئيس الجمهورية الأثر البليغ في تمييع الحياة السياسية، وتراجع أداء ودور المؤسسات الرقابية، لذلك فإن الدستور المرتقب يشكل بجد فرصة لإرساء نظام سياسي جديد، وفي خضم ذلك يطرح السؤال حول مدى ملاءمة النظام البرلماني أو الرئاسي في الجزائر؟ (المطلب الأول)، وإذا كان هاذين النظامين قد أثبتا فعلا نجاعتهما، فهل يمكن الجزم بنجاح أحدهما في الجزائر؟ وفي الحالة العكسية فإنه لابد من البحث عن نظام سياسي يستجيب لتطلعات الشعب الجزائري في بناء جمهورية جديدة، وفي نظرنا فإنّ النظام الشبه الرئاسي يعّد النظام الأصلح للجزائر، إذ يشكل حلا لأزمة الحكم في الجزائر (المطلب الثاني).
المطلب الأول: مدى ملاءمة النظام البرلماني أو الرئاسي للجزائر
ترجع فعالية النظامين الرئاسي والبرلماني إلي الظروف التاريخية والسياسية التي نشأ فيها، لذلك فإنّ القول بإمكانية إستنساخ أحد النظامين في الجزائر دونما إعتبار لتلك الظروف يصبح بدون جدوى (الفرع الأول)، لذلك وبهدف تجاوز الأزمة السياسية الحالية يمكن إقتراح تبني النظام الشبه الرئاسي كحل (الفرع الثاني).
الفرع الأول: عدم جدوى تطبيق النظام الرئاسي أو البرلماني في الجزائر
لا يمكن فصل النظامين الرئاسي والبرلماني عن الظروف التاريخية التي كانت سببا مباشرا في نشأتهما وتطورهما، إلى جانب الظروف الموضوعية (النظام الحزبي، تجذر قواعد الديمقراطية، وجود مؤسسات رقابية فعّالة) وبالتالي فإنّ كل المحاولات بنقل هاذين النظامين إلى دول أخرى عرفت عدم إستقرار وإضطرابات سياسية كبيرة، على هذا النحو ذهب الأستاذ Thiébaultإلى حد الجزم بعدم إمكانية نجاح النظام الرئاسي إلاّ في بلده الأصلي1. وبالنتيجة فإنّ محاولة إستنساخ وتطبيق أحد هاذين النظامين في الجزائر بمناسبة الدستور المرتقب يعّد مجازفة وبدون جدوى، إنطلاقا من إعتبار النظام الرئاسي خطر على إستقرار المؤسسات في الجزائر (أولا)، فضلا عن أنّ السلطة في ظل النظام البرلماني تنتقل من المؤسسات إلى الأحزاب (ثانيا).
أولا: خطر النظام الرئاسي في الجزائر
إنتهينا إلى أنّ النظام السياسي الرئاسي في أمريكيا هو نظام قائم على الفصل الجامد بين السلطات، إذ تتمتع كل سلطة فيه بإختصاص قاصر في ممارسة سلطاتها، غير أنّ هذا الفصل الجامد يثير العديد من النقاط حول كيفية تطبيقه سواء في أمريكا أو في غيرها من الدول، ذلك أنّ الفصل الجامد بين السلطات يؤدي إلى شلل المؤسسات، بحكم عدم التعاون والتداخل بين السلطات. تزداد هذه الوضعية سوءا إذ عرفنا أنّ النظام الرئاسي لا يتيح أية آلية لحل النزاعات السياسية التي يمكن أن تطرأ بين السلطة التنفيذية والتشريعية، بالنظر إلى أنّ هاتين السلطتين مستقلتين وظيفيا وعضويا فيما بينهما، ولعّل هذا ما يفسر تدخل المؤسسة العسكرية في كثير من الدول التي طبقت النظام الرئاسي مثل: الشيلي، البرازيل، بوليفيا...إلخ، وهنا يكمن الخطر الذي تحدثنا عنه، وبالتالي فإنّ تطبيق وإستنساخ هذا النظام في الجزائر يعّد مجازفة غير محمودة العواقب.
ينطلق الأستاذ Thiébault من تشخصيه لخطر النظام الرئاسي في نقطتين وهما:
- الشرعية المزدوجة la légitimité duale: للرئيس والبرلمان على السواء فكلاهما منتخبين من الشعب، لهذا فالنظام الرئاسي قائم على مبدأ الرابح أو الخاسر، وبطبيعة الحال فإنّ الرابح هو من تعود له في النهاية زمام السلطة. من هذا المنطلق إعتبر الفقيه Juan J. Linz أنّ النظام الرئاسي هو نظام الأزمة، إعتبارا من أنّ الأزمات التي يعرفها هذا النظام هي أزمات نظام، في حين أنّ الأزمات التي يعرفها النظام البرلماني هي أزمات حكومات2 .
- أما النقطة الثانية فهي خطر جعل العهدة الرئاسية ثابتة: فالنظام الرئاسي الأمريكي جعل من العهدة الإنتخابية مسألة ثابتة تحت أي ظرف، إذ تستمر عهدة الرئيس المنتخب لمدة أربعة سنوات، ويمكن للرئيس أن يعاد إنتخابه مرة أخرى، غير أن تجديد العهدات الإنتخابية لا ينبغي أن يكون لأكثر من مرتين متتاليتن، إذ لابد وأنّ يفصل بين العهدتين الأولى والثانية عهدة أخرى لا يتولى فيها الرئاسة، وبالعودة لمسألة جعل العهدة الإنتخابية ثابتة تحت أي ظرف ( كوفاة الرئيس مثلا، أو عجزه) فإنّ النظام الرئاسي الأمريكي إستحدث منصب نائب الرئيس، ولو أنّ هذا المنصب لم يولي أهمية كبيرة، غير أنّ أهميته تظهر في حالة حدوث عارض ما للرئيس الفعلي، ويكون في هذه الحالة على نائبه أن يكمل عهدته الإنتخابية، وهنا نفتح قوس لإمكانية تعارض سياسة نائب الرئيس مع الرئيس الفعلي، بما يؤدي لإمكانية تعطيل عدة برامج تمّ الإنطلاق فيها، أو حتى إمكانية تغول نائب الرئيس في حالة ما إذا كان ينتمي لحزب الأغلبية في الكونغرس.
إلى جانب ذلك يكمن خطر النظام الرئاسي في:
- إمكانية تحول النظام الرئاسي إلى نظام قيصري ديمقراطي: على الرغم من مزايا النظام الرئاسي في كونه قائم على إحترام وفعلية الإستقلالية الوظيفية لكل سلطة من سلطات الدولة، قياسا بالفصل الجامد بين هذه السلطات، إلاّ أنّ هذه الإيجابيات سرعان ما تختفي ويتحول النظام الرئاسي إلى نظام قيصري ديمقراطي، أين يتمتع فيه الرئيس بكافة السلطات دون منازع. تتحقق هذه الفرضية في حالة التعايش بين رئيس الدولة والأغلبية في السلطة التشريعية، فتندمج بذلك إرادة السلطة التنفيذية بإرادة السلطة التشريعية، خاصة في مجال المبادرة بالقوانين، فلا الرئيس يستطيع الإعتراض على أي قانون، ولا السلطة التشريعية يمكن لها معارضة سياسات الرئيس، التي هي في الأصل هي سياسية الحزب الذي إنبثق منه. على هذا النحو نكون أمام خطر شخصنة السلطة أين يصبح الرئيس هو محور الدولة والمتحكم الفعلي والوحيد في كل السلطات. غير أنه وجب التنويه أنّ هذه الفرضية تبقى قائمة في الدول التي تعيش تحت عتبة الديمقراطية Les pays situés au-dessous du seuil de la démocratie ومنها الجزائر التي تحاول إرساء قواعدها الصحيحة، خاصة في ظل الدستور المرتقب.
يقوم النظام الرئاسي على مبدأ قوة أو تركيز السلطة وليس شخصنة السلطة كما هو الحال في أنظمة العديد من الدول خاصة العربية، و بالتالي فإنّ النظام الرئاسي يعمل على تقوية السلطة التنفيذية الممثلة في الرئيس، هذا الأخير الذي يستمد قوته من الإقتراع الشعبي عليه، بما يمّكنه من مواجهة والحد من تزايد المصالح الشخصية لأعضاء البرلمان، غير أنّ هذه القوة بقدر ما تمنح للرئيس سلطات واسعة في تنفيذ سياسته الداخلية والخارجية والتي على أساسها تمّ إنتخابه إلاّ أنّ خطر عدم الإستقرار يبقى السمة البارزة في الأنظمة الرئاسية، فلو أخذنا مثالا بالنظام الأمريكي الذي كما أسلفنا يبقى النموذج الحقيقي والفعلي للنظام الرئاسي فإننا نجد أنّ السلطة التشريعية هي الأخرى تملك من الأدوات ما يسمح لها بالحد من سلطات الرئيس كسلطة العزل (مثال الرئيس الحالي ترامب بسبب إتهامه بالخيانة)، إلى جانب سلطة الإعتراض على التعيينات التي يقترحها الرئيس (مثال تعيين الوزراء والقضاة)، إلى جانب سلطة عدم المصادقة على بعض المعاهدات الدولية...إلخ.
في ذات السياق وفي إطار سلطات السلطة التشريعية في أمريكا والموجهة أساسا للحد من سلطات الرئيس نجد سلطة الإعتراض المالي الذي تمتلكها السلطة التشريعية، إذ يمكن لهذه الأخيرة أن لا تصادق على تمرير مشاريع الميزانية التي ترى أنها تخدم سياسات الرئيس على حساب المصلحة العليا للدولة، فالمال أو الميزانية بمصطلح أدق هي عصب الدولة، ولا يمكن تصور سير مؤسسات الدولة دون ميزانية يتم إقرارها تشريعيا، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها التعطيل المالي لمشاريع التسليح، والحروب المفتوحة التي تشّنها الولايات المتحدة الأمريكية...إلخ.
ثانيا: النظام البرلماني: تحول السلطة من المؤسسات إلى الأحزاب
يرتبط النظام البرلماني بنظام التمثيل الحزبي داخل الدولة، على هذا النحو لا يمكن إعتبار نجاح النظام البرلماني في إنجلترا معيارا أو حجة للأخذ به في الجزائر على إطلاقه، فالنظام البرلماني الإنجليزي كما هو معروف قائم على الثنائية الحزبية. وهنا نفتح قوس إلى ما يصطلح عليه في القانون الدستوري بنظام التعددية الحزبية، للقول بأنّ التعددية الحزبية قد تكون حقيقية أو فعلية، كما قد تكون تعددية حزبية شكلية، قائمة على معيار العدد، فنكون في هذه الحالة أمام نظام تعدد حزبي كما هو الشأن في الجزائر، على هذا الأساس فإنّ نجاح النظام البرلماني في إنجلترا ساهم فيه إلى حد بعيد إستقرار النظام الحزبي الذي يميز الحياة السياسية هناك، وللدلالة على هذا الإستقرار فإنّه من الناحية العملية وغداة كل إنتخابات تشريعية في إنجلترا تكون فيها الأغلبية لأحد الحزبين، وبحكم هذه الأغلبية يؤول له تشكيل الحكومة وتولي السلطة التنفيذية ممثلة في الوزير الأول، هذا الأخير يكون في موقف أكثر أريحية في طرح برنامج حكومته والدفاع عنه أمام البرلمان.
على خلاف ذلك نجد دولا كثيرة حاولت الأخذ بالنظام البرلماني غير أنها عرفت جملة من الصعوبات مرتبطة أساسا بعدم الإستقرار الذي يميز تشكيل وسير السلطة التنفيذية ممثلة في الحكومة، وأبرز مثال على ذلك النظام البلجيكي الذي عرف في العديد من المرات تعطلا في تشكيلة الحكومة أبرزها سنوات 2011-2010 التي وصل فيها التعطيل لأكثر من سنتين، لتعود حاليا وهذا منذ سنة 2018، غير أنه لابد من الإشارة إلى أنه في الحالة البلجيكية هناك ما يعرف بحكومة تصريف الأعمال التي تقوم مقام الحكومة الفعلية في حالة تعطل تشكيلها3 .
وعلى مستوى الدول العربية نأخذ النظام اللبناني الذي يأخذ بالنظام البرلماني، حيث عرف هذا النظام العديد من صور العرقلة أو التعطيل على مستوى تشكيل الحكومات، ومثال ذلك فحكومة فؤاد السنيورة الثانية استغرق تأليفها نحو 45 يوماً، وحكومة سعد الحريري استغرقت نحو 5 أشهر، وحكومة نجيب ميقاتي (الثانية) لم تؤلّف، رغم مرور أكثر من أربعة أشهر. نفس الأمر حدث ويحدث في دولة العراق التي عرفت أزمة تشكيل عدة حكومات، الأمر الذي أرغم الشعب للخروج في مظاهرات عارمة تخللتها أعمال عنف وتخريب.
عطفا على ماسبق يمكن القول أنّه لا يمكن تصور نجاح النظام البرلماني في الدول التي تشهد إنقسامات وإصطفافات سياسية وإديولوجية، ولا تتمتع فيها الأحزاب السياسية بالانضباط العالي في قبول تداول السلطة، فإن النظام البرلماني الذي يفضي بالضرورة إلى حكم الأغلبية سيؤدي بالضرورة إلى التناحر على السلطة من جهة، ومن ثم الاستئثار بها دون اعتبار لحقوق الأقلية في ظل غياب دولة القانون والمؤسسات من جهة أخرى. وهذه الأخيرة لن تجد سوى الضغط في الشارع وسيلةً للتعبير عن معارضتها، مع ما يستتبعه الأمر من اضطرابات سياسية وأمنية تبعاً لغياب مؤسسات الدولة الضامنة لحقوقهم4 .
بالنتيجة فإنّه في ظل النظام البرلماني تتحول فيه السلطة من المؤسسات إلى الأحزاب السياسية، فنجاح النظام البرلماني يتطلب بدءا وجود أحزاب سياسية ذات تقاليد عريقه في الإنضباط الحزبي، وتغليب المصلحة العليا للدولة على حساب المصالح السياسية الضيقة، وهي العوامل التي تبدو غائبة على الأقل في دول العالم الثالث، ومنها الجزائر.
إلى جانب كل ذلك تعتبر إنجلترا مهد النظام البرلماني دولة عريقة في الديمقراطية، وهو ما يعّد بمثابة حاجز أو سد في مواجهة تغول السلطة التنفيذية، بحكم أنّ هذه الأخيرة منبثقة عن الأغلبية البرلمانية، وفي خضم ذلك نتساءل عن حقوق المعارضة البرلمانية في النظام البرلماني البريطاني؟
يعتبر النظام السياسي في إنجلترا من بين أبرز و أعرق الأنظمة السياسية في العالم في مجال تكريس حقوق المعارضة البرلمانية، إذ بمجرد فوز أحد الأحزاب في الإنتخابات التشريعية و تشكيل الحكومة، يتولى زعيم المعارضة chef de l'opposition الذي يمثل الأقلية في البرلماني تشكيل ورئاسة حكومة الظل المعترف بها في النظام البرلماني الإنجليزية "cabinet fantôme" . هذا ويعّد زعيم المعارضة شخصية ذات ثقل في النظام البرلماني، وهو بمثابة أحد الوزراء في الحكومة الفعلية، يخصص له تعويض مالي محترم، إلى جانب إستشارته من قبل الوزير الأول في المسائل ذات الأهمية الكبرى، فضلا عن مشاركته في إعداد جدول أعمال الغرفة الأولى في البرلمان الإنجليزي5، وبذلك يمكن القول أنّ حكومة الظل تكون على الدوام في حالة إستعداد لتولي السلطة في حالة إجراء أي إنتخابات مسبقة، كما أنها تمثل آلية رقابية فعالة للسلطة التنفيذية.
لا تختلف الجزائر عن كثير من دول العالم الثالث في المجال السياسي ومحدودية وعدم تجذر التجربة الديمقراطية فيها، فضلا عن عدم نضج النظام الحزبي فيها، فالأحزاب السياسية في الجزائر ولإعتبارات متعددة لا تزال تتخبط في دوامة البحث عن التموقع في المواعيد الإنتخابية بعيدا عن ثقافة النضال الفعلي وتغليب ثقافة الدولة على حساب المصالح الشخصية والإنتخابية الضيقة، و هو ما يفسر في جانب كبير منه عدم إمكانية تصور السياسي في الجزائر لنفسه معارضا خارج دائرة السلطة، الأمر الذي أدى إلى تمييع العملية السياسية برمتها، وغياب الرؤى والنقد البناء لمختلف البرامج الحكومية التي تعرض على قبة البرلمان، فضلا عن مساهمة النظام البوتفليقي في غلق المجال السياسي وخنق الحريات العامة طوال عشريتين من الزمن، وهو ما يفسر خروج الشعب الجزائري لإحداث التغيير في 22 فيفري 2019.
على هذا النحو يصبح تطبيق النظام البرلماني في الجزائري خطر على المؤسسات والأمن القومي برمته6، ذلك أنّ النظام البرلماني لا يمكن تطبيقه في الدول التي لم تتجذر فيها التجربة الديمقراطية، بالخصوص على مستوى الأحزاب السياسية. يزداد التخوف من تطبيق هذا النظام أمام مختلف التحديات الأمنية والإقتصادية التي تعرفها الجزائر، وهو ما يتطلب توافقا على المستوى الداخلي لمواجهة تلك التحديات، والتالي فإنّه لا يمكن المجازفة بتطبيق النظام البرلماني، بالنظر لما يمكن أن يسفر عنه من تعطيل وشلل للمؤسسات في حالة عدم حصول حزب معين على الأغلبية، وما يتبعه من غياب للتوافق في تعيين الوزير الأول وتشكيل الحكومة.
المطلب الثاني: النظام الشبه الرئاسي كحل للأزمة السياسية في الجزائر
يعتبر الفقيه موريس ديفيرجي أول من إستخدم مصطلح النظام الشبه الرئاسي7، ويعتبر هذا النظام نظاما وسطا بين كل من النظام البرلماني والرئاسي، بحيث تكون السلطة التنفيذية برأسين أي بكل من رئيس الجمهورية والوزير الأول، إلى جانب إقرار مسؤولية الوزير الأول أمام البرلمان، وهي مظاهر من مظاهر النظام البرلماني، فضلا عن إنتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب، وهذا مظهر من مظاهر النظام الرئاسي.
تعتبر الأنظمة الشبه الرئاسية كحلول للأزمات السياسية للدول التي عرّفت حروبا أهلية أو أزمات سياسية حادة، أو الدول الحديثة بالإستقلال، كون هذا النظام يضمن عدم الإنفراد بالحكم، و يقوم على مبدأ التوازن في ممارسة السلطة، بين كل من السلطة التنفيذية و التشريعية، و بذلك فهو يضمن فصلا فعليا بين السلطات، غير أنّ تطبيق هذا النظام في الجزائر لا يجب أن يعيدنا إلى ممارسات النظام السابق الذي ثار من أجله الشعب، أين عمل على تفوق رئيس الجمهورية على باقي السلطات، حتى على حساب الوزير الأول، الذي ينبغي أن يتم إعادة النظر في صلاحياته جذريا، وأن تسند له صلاحية تشكيل الحكومة بعد مشاورة الرئيس، إلى جانب تعزيز سلطاته في التعيين، وضبط برنامجه الحكومي.
بخصوص السلطة التشريعية: لا يمكن العمل والتركيز على إصلاح السلطة التنفيذية وضبط علاقة رئيس الجمهورية بالوزير الأول، دون إصلاح المؤسسة التشريعية، وذلك عبر إعادة الإعتبار لدورها التشريعي والرقابي. فعلى مستوى الدور التشريعي فإنه لابد أن يتم إدخال تعديلات جوهرية على دور البرلمان في التشريع، وإلغاء الأحكام التي تتنافى مع هذا الدور، ونقصد بذلك التشريع المنافس الذي يحتكره رئيس الجمهورية، وأولوية تنفيذ الإقتراحات الحكومية في مجال التشريع، مقابل إنحسار دور السلطة التشريعية في التصويت لصالح هذه التشريعات، والحد من مبادرتها في المجال التشريعي بوضع قيود متعددة عليها8، فضلا عن سلطة رئيس الجمهورية في الإعتراض على أي نص تشريعي، أو حتى إمكانية طلبه لمداولة ثانية لذلك النص، كما يمكنه الإمتناع عن إصدار أي نص دون أن يرتب الدستور أي جزاء ضده، و هو ما يعّد بمثابة حق فيتو في يد رئيس الجمهورية في مواجهة السلطة التشريعية.
كما ينبغي العمل على إصلاح نظام التشريع عن طريق الأوامر، وجعله مقصورا على الحالات التي يكون فيها البرلمان في عطلة، أو حالة الضرورة، مع وجوب تقييد ذلك بالحصول على تفويض من السلطة التشريعية إلى جانب تقييده بمدة محددة، على أن يتولى البرلمان مناقشة تلك الأوامر والتصويت عليها تلك حال إنعقاده، إلى جانب إلغاء التفوق الرئاسي في مجال التشريع الفرعي عن طريق التنظيم، والعمل على حصر مجالات التشريع فيه.
في ذات السياق ينبغي تكريس مختلف الأليات التي تسمح للمعارضة بلعب دورها في بناء وتصويب السياسات الحكومية، بما يستجيب للصالح العام، والتخلي عن فكرة إعتبار المعارضة تهديدا للأمن القومي، وهي الفكرة التي عمل النظام السابق على ترسيخها، إلى جانب تعزيز دور المجتمع المدني وإعادة الإعتبار للمجالس المحلية المنتخبة، عبر تكريس نظام لامركزي فعلي يسمح ببروز الكفاءات المحلية وتعزيز قيم المواطنة.
أما على مستوى الدور الرقابي للسلطة التشريعية فإنه ينبغي تعزيز دور السلطة التشريعية في هذا المجال، ولو أنّ الدستور الحالي يتيح العديد من أليات الرقابة لهذه الهيئة، إلاّ أنّ ممارسات السلطة التنفيذية جعلت هذه الأليات مجرد حبر على ورق، مما أدى إلى تمييع العمل الرقابي، ونأخذ مثال على ذلك آلية الرقابة عن طريق طرح الأسئلة أين لا تكلف السلطة التنفيذية نفسها عناء الإجابة عنها، فضلا عن إبعاد مسؤولية رئيس الجمهورية سياسيا رغم أنّ الحكومة مسؤولة عن تنفيذ برنامجه.
بالنتيجة لا ينبغي للإصلاح المنشود في الدستور المرتقب أنّ يقتصر على تغيير طبيعة نظام الحكم من نظام رئاسوي إلى نظام شبه رئاسي يتم من خلاله توزيع السلطات بشكل متوازن، بل لابد وأن يكون هذا الإصلاح شاملا، لكافة الجوانب المتصلة بممارسة السلطة، بما يحقق الإنتقال الديمقراطي الذي يتطلع إليه الشعب الجزائري منذ 22 فيفري 2019، قياسا على ذلك نقول بأنّ الجزائر اليوم تحتاج لتغيير جذري على مستوى أليات سير المؤسسات، وممارسة الحكم، ولا ينبغي الإكتفاء بتغيير الأشخاص على مستوى هذه المؤسسات، ولن يتحقق ذلك إلاّ بإرساء دولة الحق والقانون، ودولة المؤسسات التي لا تزول بزوال الرجال، ويمكن في هذا الصدد الإستشهاد بكلام الأستاذة ولد أحمد تنهنان التي تقول: " لا يتحقق التحول الديمقراطي عن طريق تغيير تشكيلة السلطة التشريعية أو إستبدال المسؤول الأعلى على مستوى السلطة التنفيذية، بل يتحقق عن طريق تغيير الأدوار بين القوى السياسية المتمركزة في المعارضة، بأن يسمح لها نظام الإقتراع العام بالوصول إلى السلطة9" .
على هذا النحو فإنّ محاولة البحث عن النظام السياسي الأفضل أو الأصلح للجزائر والذي كان من وجهة نظر الباحث هو النظام الشبه الرئاسي الذي يمزج بين مظاهر النظام البرلماني والرئاسي، غير أنّه لا يمكن ضمان فعاليته بعيدا عن إصلاح سياسي شامل ودمقرطة سير المؤسسات، كل ذلك في إطار وجود نظام حزبي فعّال يساهم في سير تلك المؤسسات، و للدلالة على أهمية النظام الحزبي فيكفي النظر إلى التجربة التونسية بعد الإنتخابات التشريعية الأخيرة، بحيث و بعد ما يقارب أربعة أشهر (4) لا تزال تشكيل الحكومة تراوح مكانها، بفعل تعنت بعض الأحزاب السياسية، وهذا بالرغم من الإصلاح السياسي الكبير الذي عرّفته تونس بعد ثورة 2011 و الذي توّج بمجلس تأسيسي إنتهى إلى إعداد دستور جديد للدولة سنة 2014.
أماّ على مستوى المؤسسات فإنه ينبغي الذهاب جديا نحو تكريس إستقلالية السلطة القضائية، أين لا يخضع فيها القاضي إلاّ للقانون وأن يمارس وظيفته المحددة في الدستور في حماية الحريات و الحقوق الأساسية، ولن يتأتى ذلك إلاّ بتوفير كل الشروط القانونية و المادية لضمان ممارسة القاضي لوظيفته بصورة مستقلة، إذ لا يعقل أن يكون رئيس الجمهورية هو الضامن لإستقلالية السلطة القضائية، يفترض فيها ان تكون موازية للسلطة التنفذية وهي السلطة القضائية، بل ينبغي إسناد تلك المهمة للمجلس الأعلى للقضاء والذي ينبغي أن يكون مستقلا تماما عن السلطة التنفيذية، وذلك بإبعاد كل من رئيس الجمهورية ووزير العدل عنه، إلى جانب إعتماد نظام إنتخاب أعضاءه من القضاة بمختلف درجاتهم.
ختاما لهذه المداخلة يمكن القول أنّ البحث في النظام السياسي الأصلح للجزائر هي عملية لا تتوقف على مجرد وجود جانب كبير من الأحزاب أو الشخصيات المنادية بتطبيق نظام سياسي معين على حساب أخر، بل إنّ هذه العملية لابد و أن تكون خلاصة أو نتيجة لمشاورات سياسية عميقة لكافة أطياف المجتمع، ففي النهاية يترجم النظام السياسي رغبة المجتمع في كيفية الحكم و ممارسة سيادته، ثم إنّ أي نظام سياسي مهما كان ناجحا في الدولة التي نشأ و تطور فيها، فإنّه لا يمكن تطبيقه في بلدان أخرى، ذلك أنّ الظروف التاريخية و السياسية و حتى الإجتماعية لشعوب تلك الدول هي من ساهمت في صياغة تلك الأنظمة، ولعّل ما يجمع النظامين البرلماني والرئاسي هو البحث عن الحرية والحد من السلطة المطلقة للحاكم.
ويبقى النظام الشبه الرئاسي كحل مطروح للأزمة السياسية الحالية، بالنظر إلى أنه نظام وسط بين النظام البرلماني والرئاسي، وكما أسلفنا فإنه من الناحية العملية لا يمكن تطبيق أحد هاذين النظامين لما لذلك من خطر على سير وإستقرار المؤسسات، ورغم نجاح النظام الشبه الرئاسي في العديد من الدول كفرنسا مثلا، إلاّ أنه ينبغي أن يتوقف الإصلاح السياسي على هذا الجانب، بل لابد وأن يكون إصلاحا شاملا يراعي فيه مطالب الشعب الجزائري التي عبّر عنها في حراكه يوم 22 فيفري 2019.
2- Jean-Louis THIÉBAULT, Les périls du régime présidentiel,Op.cit ,p95.
3- Pour plus de détails voir: Méabh Mc Mahon, La Belgique toujours sans gouvernement. Article électronique publié le 28/01/2020.Disponible sur le site : https://fr.euronews.com/2020/01/28/la-belgique-toujours-sans-gouvernement. Consulté le 17-02-2020.
4- عبدو سعد، لبنان بين بين مأزق النظام البرلماني ومخرج النظام الرئاسوي، مقال إلكتروني منشور بتاريخ الخميس 2 حزيران 2011، على الموقع التالي: https://al-akhbar.com/Opinion/89334. تم الإطلاع عليه بتاريخ 17-02-2020.
5- SUREL Yves, Le chef de l'opposition, In Pouvoirs, 2004/1, n° 108, pp. 72-73.
6- رغم أنّ هناك جزء كبير من الأحزاب والشخصيات الوطنية التي دعت لتبني هذا النظام، وهو ما تمّ التعبير عنه في إطار المشاورات التي أطلقتها السلطة بمناسبة التعديل الدستوري لسنة 2016. أنظر في ذلك: عمار عباس، النظام البرلماني: نموذج الحكم المنشود بعد الإصلاح، مرجع سابق، ص7.
DUHAMEL Olivier, Une démocratie à part, In pouvoir, 2008/3,n 126, p22 -7
8- تشترط المادة 139 من دستور 1996 المعدل والمتمم على المبادرة البرلمانية في المجال المالي أن لا تتضمن البادرة تخفيضا في الإيرادات أو الزيادة في النفقات، أما في المجالات الأخرى فقد وضعت المادة 136 من ذات النص شرط أن يكون الإقتراح مقدما من قبل 20 نائبا أو عضوا حسب الحالة، كما جاء في نص المادة 14 من النظام الداخلي للمجلس الشعبي الوطني إمكانية رفض مكتب المجلس الشعبي الوطني إقتراح القانون شكلا. في حين لا نجد هذه الشروط متطلبة بالنسبة للمبادرة التشريعية للسلطة التنفيذية للتفصيل أكثر أنظر: تناح أحمد، متطلبات إصلاح وتطوير المؤسسة البرلمانية في الجزائر، أطروحة لنيل درجة دكتوراه في القانون، تخصص القانون الوضعي، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة مولود معمري، تيزي وزو، 2019-2019، ص 188 ومايليها. راجع كذلك: بن سهلة ثاني، حمودي محمد، الإطار القانوني المنظم لحق المبادرة بالقوانين في الدستورين الجزائري لسنة 1996 والمغربي لسنة 2011، مجلة دفاتر السياسية والقانون، العدد 08، جانفي، 2013، ص.ص 167-181.
9-ولد أحمد تنهان، أثر النظام الإنتخابي على التحول الديمقراطي في الجزائر – دراسة مقارنة-، أطروحة لنيل شهادة دكتوراه، تخصص القانون العام الداخلي، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة مولود معمري، تيزي وزو، 2019، ص 215.