بقلم سلمى التريكي

من أجل إدماج اِتِّفَاقِيَّة لاَهَايْ حَوْلَ بُنُودِ اِخْتِيَارِ المَحْكَمَةِ في المنظومة القانونيّة التّونسية

Pixabay-Gericht

 

سلمى التريكي: أستاذة محاضرة مبرزة في كلية العلوم القانونية والسياسية والإجتماعية بتونس

إنّ "اتفاق اختيار المحكمة" هو بند معبّر عن الإرادة المجتمعة للأطراف بإسناد الاختصاص القضائيّ بخصوص كلّ نزاع طرأ أو قد يطرأ على العقد الأصليّ لمحكمةِ منظومةٍ قانونية بعينها أو أكثر مُقصين بذلك بقيّة الأنظمة القانونيّة المُمكنةِ.

 

وهو بذلك اتّفاق ذو طبيعة مخضرمة تعاقديّة إجرائيّة1 أي أنّه "عقد إجرائيّ" كما يتّفق على ذلك جميع الدّارسين. وقد استقطب هذا البند اهتماما واسعا من قِبل المشرّعين فكرسته تونس في الفصلين الرابع والخامس من مجلّة القانون الدّولي الخاص (م ق دخ). كما أن اتفاقات دوليّة اهتمت به. وتهمنا في هذا الإطار الأخير اتّفاقيّة لاهاي حول بنود اختيار المحكمة التي تمّ إبرامها في 30 جوان 22005 في إطار مؤتمر لاهاي للقانون الدولي الخاص وقد دخلت حيّز التّنفيذ في 1 أكتوبر 2015.


هذا النّجاح الواضح يجد سببه في الفوائد الجمّة التي تحقّقها هذه البنود رغم القراءة التّنسيبيّة لبعض المؤلّفين3. فهذه الاتّفاقات تُمكّن من التّأكّد التّام من المحكمة التي ستختصّ دون غيرها بالنّزاع ومن ثمَّ من القانون المنطبق باعتبار العلاقة الوطيدة بين هاتين المسألتين. فهي بذلك تُدعّم وبشكل محسوس الأمن القانوني بتمكين الأطراف من التّنبّؤ بالحلول النّهائيّة للنّزاعات الطّارئة على العقد. كما ينجرّ عنها أنّه حين يولد النّزاع التّعاقدي يقع تفادي الاجراءات القضائيّة المتوازية وما قد تسبّبه من مصاريف باهضة ومن قرارات متناقضة. وعرضيّا تمكّن هذه البنود أيضا من الاتّفاق على قاض تتوفّر فيه خصالٌ بعينها كالحياد والـتّأهيل العلمي (أو التّقني).
ولئن كان النّجاح التّطبيقي لهذه الاتّفاقات هو الذي استدعى النجاح التّشريعيّ فإنّ انتشارها التّشريعي يزيد من نجاحها التّطبيقي4. ذلك أنّ رواج هذه البنود تشريعيّا يجعلها، في إطار دائرة حميدة، ذاتِ نجاعة تطبيقيّة عالية باعتبار أنّ كلّ الدّول التي تُكرّسها، وقد باتت عديدة، تنصاع محاكمها إلى البنود التّعاقديّة التي نزعت عنها الاختصاص لتمنحه إلى غيرها وتقبلُ مبدئيّا كنتيجة منطقيّة لذلك القرارات الصّادرة عن المحاكم التي أُسند إليها الاختصاص.


في هذا الإطار نفهم أنّ النّجاعة القصوى لمثل هذه البنود لا تكون إلاّ بخضوعها إلى نظام قانونيّ موحّد أيّا كان القاضي الذي سينظر في النّزاع وهو ما يُوفّره بطريقة رائدة إطار الاتّفاقيّات الدّوليّة لما يُحقّقه من تماه محمود بين مختلف التّشريعات ولما يُقدّمه من أمان قانونيّ ووُضوح في الرّؤية لمنظوريه.
وللأسف، فإنّ تونس، رغم انضمامها منذ 10 نوفمبر 2014 إلى مؤتمر لاهاي المتخصّص في توحيد ومواءمة التّشريعات في مادّة القانون الدّولي الخاصّ ودعمِ التّعاون القضائي بين الدُّول إلاّ أنّها لم تصادق بعد على الاتّفاقيّة الخاصّة " باتّفاقات اختيار المحكمة" وهو أمر غير مفهوم بالنّظر إلى أنّ هذه الاتّفاقيّة غايتُها الأولى تحقيق التّعاون القضائي بين الدّول المتعاقدة بطريقة تُعزّز التّجارة والاستثمار الدُّوليّيْن من خلال تكريس نظام قانوني واحد لاتّفاقات اختيار المحكمة و ضمان مرونة الاعتراف بالقرارات القضائيّة التي تأخذها بعين الاعتبار.


ولا يخفى أنّ من أهمّ المعنييّن بهذا النّص المؤسّساتُ الصّغرى والمتوسّطة التي قد تُخيِّر في أحيان كثيرة اختصاص المحاكم على اختصاص المُحكّمين للبَوْن الشّاسع في التّكلفة بين طريقتي فضّ النّزاعات. ووُجودُ نصّ قانونيّ مرجع موحّدٍ، يُسهّل الوصول إلى المعلومةِ دون خطر يُذكر يُشجّع هذه المؤسّسات على الإقدام على التّعاقد خاصّة وأنّ هذه الاتّفاقيّة قد وقع تبنّيها من قبل الاتّحاد الأوروبي في 11 جوان 2015 ذلك أنّ أكثر التّبادلات التّجاريّة التّونسيّة مع الخارج هي مع بلدان هذا الاتّحاد.
وللتّدليل على مصلحة المنظومة القانونية التّونسية من تبنّي هذه الاتفاقية والدّفع نحوه، نلاحظ أن الأرضيّة المشتركة بين النّصين من حيث فلسفتُهما هامّة (I) إضافة إلى النّجاعة الأكبر للاتّفاقيّة في تحقيق الأهداف المشتركة للنّصّين (II).


I. أرضيّة مشتركة هامّة بين النّصّين من حيث فلسفتهما:


في تونس، يُوسّع الفصل الرابع من م ق د خ من نطاق اختصاص المحاكم التّونسيّة إن كان الاتّفاق لصالحها ويُقلّص الفصل الخامس من م ق د خ من هذا الاختصاص كلّما كان الاتّفاق لصالح غيرها من المحاكم. والقاعدتان مرتبطتان ببعضهما بعلاقة منطقيّة لا غُبار عليها. لهاتين القاعدتين مع الاتّفاقيّة أرضيّة مشتركة إحداها واضحة (أ) والأخرى ضمنيّة (ب):


أ- نقطة اشتراك واضحة: غياب شرط الصّلة بين العقد والنّظام القانوني للمحكمة المختارة:


إنّ في غياب اشتراط صلة ما بين العقد والمنظومة القانونيّة للمحكمة المختارة من قِبل الاتّفاقيّة ومجلّة القانون الدّولي الخاص التّونسي تكريس لمبدأ سلطان الإرادة في أبهى تجلّياته.
فاشتراط الصّلة في بنود اختيار المحكمة ينبني على قناعة مفادُها أنّ الأطراف يجب ألاّ يُتاح لهم الاختيار بحرّيّة مطلقة وإنّما يجب تقييدهم جغرافيّا بالأنظمة القانونيّة التي لها صلة موضوعيّة بأصل النّزاع أو بالأطراف. وفي هذا الصّدد، يتّفق الفصل الرابع من م ق د خ واتّفاقيّة لاهاي على الحلّ المبدئي الذي مفاده أنْ لا تقييد لحريّة الأطراف بشرط الصّلة عند اصطفاء المحكمة.


وبالنّظر في القانون المقارن فأنّه وإن وُجدت تشريعاتٌ تشترط الصّلة بين العقد موضوع النّزاع والمحكمة المصطفاة فإنّ الاتّجاه العامّ للتّشريعات الحديثة (القانون الفرنسي، الألماني5، الإيطالي6، السّويسري7، الأوروبي8، الكيبيكي9) لا تذهب هذا المنحى، بل تجعل من الاتّفاقات المذكورة حلاّ من الحلول القريبة من البنود التّحكيميّة. وقد لوحظ أنّ أسباب اختيار قاض معين تختلف مشاربها إلى درجةِ أنّه يصعُب إثباتُ أيِّ تحيّل على قانونِ أو على قضاءِ الدّولة التي وقع إقصاء إطارها القضائيّ تعاقديّا.
هذه الغايات المشروعة تؤسّس إلى حريّة تعاقديّة واسعة لا يحدّها شرط الصّلة وهو ما يُمكّننا من القول بأنّ الحلّ الذي تتبنّاه الاتّفاقيّة وكذلك الفصل 4 م ق د خ هو حلّ جيّد يعتمد على مبدأ سلطان الإرادة الذي يبرز هنا في أبهى تجلّياته.


ب- نقطة اشتراك ضمنيّة: القانون المنطبق على صحّة البند القضائي :


إنّ الطّبيعة الإجرائيّة لاتّفاق اختيار المحكمة تستدعي أن يقع تطبيق مبدأ استقلالية هذا البند عن بقيّة البنود (principe de séparabilité)10 باعتباره عقدا على حِدة. وقد أوردت الاتّفاقيّة مبدأ استقلاليّة بند اختيار المحكمة بالفصل الثالث منها. أمّا مجلّة القانون الدّولي الخاصّ فلئن سكتت عن هذا الأمر فإنّه حسب رأيِنا نتيجة منطقيّة تفرض نفسَها. لكن القول باستقلاليّته لا يعني البتّة أنّه صحيح بذاته بمقتضى قاعدة مادّيّة أو أنّه لا يخضع لأيّ قانون.
فمن وجهة نظر تنازع القوانين في المكان قد نتردّد بين اقتراحات عديدة. هل هو قانون المحكمة التي وقع عرض النّزاع عليها أيّا كانت (droit du for)؟ أم هو القانون الذي يختاره الأطراف؟


يدعم الخيارَ الأوّل التّكييفُ الإجرائيّ لاتّفاق الاختيار ويدعم الخيارَ الثّاني مبدأُ سلطان الإرادة الذي نعود إليه عادة في المادّة التّعاقديّة. وفي نظرنا فإنّ الطبيعة الإجرائيّة هنا هي الغالبةُ فموضوع الاتّفاقِ إسناد الاختصاص إلى محكمة عموميّة وفي ذات الوقت سحبه عن محاكم عموميّة أخرى.
ولا يُمكن أن نقبل أنّ للأطراف في هذا الإطار حرّيةً متّسعةً إلى درجة أنّها تفرض نفسها على المحكمة المُختارة رغم أنفها لمجرّد أنّ الأطراف أرادوا. بل لا بُدّ أن يسمح قانون تلك المحكمة للأطراف باختيارها. لذلك فإنّ الأقرب إلى المنطق تطبيق قانون الدّولة التي اختيرت محاكمها في مرحلة عرض النّزاع عليها. كما أنّه في مرحلة طلب تنفيذ ما صدر عن هذه المحكمة أمام محاكم أخرى فإنّ قانون هذه المحاكم هو المنطبق على صحّة البند
ولئن صمتت مجلّة القانون الدّولي الخاصّ عن بيان هذه الحلول فإنّ الطّبيعة القانونيّة للبند تفرضها. أمّا الاتّفاقيّة فقد أتت بحلول واضحة ومقنعة فالمحكمة المختارة تنظر في صحّة العقد حسب قانونها هي كما ينصّ على ذلك الفصل الخامس وكذلك تفعل محاكم الدّول الأخرى كما أنها ا كذلك تُعمل قانونها بما في ذلك قواعد القانون الدّولي الخاصّ، حسب مقتضيات الفصل السادس للتّقرير بشأن أهليّة الأطراف مثلا وكذلك مبادئ النّظام العام الدولي الخاصة بها.


II. نجاعة أكبر للاتّفاقيّة في تحقيق الأهداف المشتركة:


نتطرّق هنا إلى نقطتين اثنتين: الأولى تهمّ مجال الانطباق المادّي لكلا النّصّين. إذ نلاحظ أنّ الاتّفاقيّة تضمن عدم انطباق بنود اختيار المحكمة على عقود الإذعان (أ) والثّانية تتعلق بما تتميّز به الاِتّفاقيّة من شروط تُجدّد النّظام القانونيّ المنطبق على اتّفاقات اختيار المحكمة لتحقيق نجاعة أكبر ونقصد بذلك الطّابع الحصري لاختصاص المحكمة المختارة (ب).


أ- ضمان عدم انطباق بند اختيار المحكمة على عقد الإذعان:


إنّ إقصاء أهمّ عقود الإذعان -أي الاستهلاك والشغل - من الاتّفاقيّة رغم أنّ هذه العقود هي جزء من المادّة التّعاقديّة يقوم على غياب الملاءمة بينها وبين فلسفة بنود اختيار المحكمة. فلهذه العقود خصوصيّة تتمثّل في أنّ المساواة المفترضة بين الطّرفين قد علقت بها شوائب هامّة. وهذا يجعل من المبدأ القائل بأنّ "العقد شريعة الطّرفين" مبدأ هشّا باعتبار أنّ الطّرف القويّ يستطيع أن يُملي على مُعاقده شروطا تُخلّ بالتّوازن التّعاقدي لفائدته. وبند اختيار المحكمة الذي لا يتمّ تفعيله إلاّ في صورة وُقوع نزاع هو بلا شكّ من البنود التي يُمكن تكون محلّ إملاء من قبل الطّرف القويّ.
ومن المهمّ أن نشير هنا إلى قضيّتين فرنسيّتين تعلّقتا بعقود كُيّفت فيهما عقود مجانية بأنّها "عقود استهلاك" اعتمادا على أن الشّركة المعنيّة -وهي شركة تواصل اجتماعي- وإن كانت لا تتقاضى مقابلا من المُتَعَاقَدِ معه مباشَرةً، إلاّ أنّها تتحصّل يقينا على مقابلٍ لخدماتها يتمثّل في مواردها المتأتّية من الومضات الإشهاريّة على صفحاتها، واعتُبر بند التّقاضي بناءً على هذا التكييف باطلا باعتباره كان مفروضا فرضا على صاحبِ الحساب دون أن يكون قد مُنح القدرة على مناقشته أو حتّى فهم أبعاده الحقيقيّة11.


وصحيح أنّه يُمكن أن نتوقّع أن القاضي التّونسي وحتّى قبل المصادقة على اتّفاقيّة لاهاي لسنة 2005 سيُبطل البند إذا تمّت البرهنة أمامه بأنّ غياب المساواة بين الأطراف، وهو أمر ناتج عن طبيعة العقد منذ تكوينه، يجعل من اتّفاق اختيار المحكمة أمرا مخالفا للنّظام العامّ الدُّولي التّونسي من حيث مساسه بمبدأ المساواة بين الأطراف وبحق الطّرف الضّعيف في الوصول إلى القاضي، وهو ما يجب معه استعمال استثناء النّظام العام الدّولي أو استعمال مؤسّسة قاضي الضّرورة12، لكنّ المصادقة من شأنها أن تدعم هذا الموقف بوضوح فتحقق نجاعة أكبر. فإضافة إلى إقصاء عقدي الشغل والاستهلاك فإنّ اتّفاقيّة لاهاي قد نصّصت صراحة في الفصل السادس (ج) على عدم تخلّي القاضي عن النّزاع المطروح أمامه في صورة ما إذا كان البند التّعاقدي الذي يُعطي الاختصاص إلى محكمة دولة أخرى يؤدّي إلى "ظلم واضح أو كان مخالفا بصفة جليّة للنّظام العام الدّولي"
بقي أن نتعرّض بالدّرس إلى النُقطة الأخيرة وهي أهمّ ما جاءت به الاتّفاقيّة.


ب الأثر المُميّز للاتّفاقيّة: الطّابع الحصري لاختصاص المحكمة المختارة


إن الهدف الأسمى من الاتفاقية كما تذكر ديباجتها تحقيق التّعاون القضائي بين الدّول المتعاقدة من خلال تحسين ظروف الاعتراف بالأحكام الأجنبيّة وتنفيذها في كلّ الدّول المتعاقدة عندما يكون أساسُها بندا اتّفاقيّا بين الأطراف على اختصاص المحكمة. ولتحقيق ذلك، تضع اتّفاقية لاهاي في فصلها 3 (ب) قرينةً قاطعة على حصريّةِ اتّفاق المحكمة كلّما لم يرد بند تعاقديّ واضح بخلاف ذلك. ولهذه القرينة آثار مهمّة نستعرضها تباعا:


1) واجب رفض النّظر من قِبل المحاكم غير المختارة


يتوجّب على كلّ محكمة تابعة لدولة طرف أن ترفض النّظر في النّزاع إن عُرض عليها كلّما كان هنالك بند تعاقديّ يُسند الاختصاص إلى محاكم دولة طرف أخرى باستثناء حالات بعينها. ويُفهم من الفصل السّادس من اتّفاقيّة لاهاي أنّ "واجب تعليق النّظر" أو "التّخلّي" موضوعٌ على عاتقها حتّى وإن لم يُثِر المدّعى عليه البندَ الاتّفاقي. وهو حلّ مختلف عمّا ورد بمجلّة القانون الدّولي الخاصّ التي تعتمد الحلّ العكسيّ حيث يُفهم من عدم إثارة "استثناء عدم الاختصاص" من قبل المطلوب تخلّيه عن البند المذكور13. وفي الحلّ الذي تفرضه الاتّفاقيّة حمايةٌ أفضل للبند.


2) واجب عدم الاعتراف بقرارات محاكم غير مختصّة:


يتوجّب مبدئيّا على كلّ محكمة تابعة لدولة طرف عدمُ الاعتراف أو تنفيذُ أيّ حكم لم يصدر عن المحكمة المختارة. ولا يستثني الفصل السادس من الاتّفاقيّة من هذه القاعدة إلاّ حالاتٍ استثنائيّةً مرتبطة ببطلان اتّفاق اختيار المحكمة أو مخالفته للنّظام العام الدُّولي أو استحالة تفعيله.
هذه القاعدة لم ترد بالمجلّة التّونسيّة وهو أمر منطقيّ باعتبار أن هذه الأخيرة لا تُنظّم إلاّ اختصاص المحاكم التّونسيّة فلا يُمكنها تبعا لذلك أن تفرض على المحاكم الأخرى تصرّفا معيّنا. أمّا في إطار عمل جماعيّ غايتُه فعاليّةٌ أكبر لاتّفاقات اختيار المحكمة وتجنّبٌ لكل المشاكل النّاجمة عن تصادم الإجراءات مثل الدّعاوى المتوازية في بلدين أو أكثر فإنّ قرينة الاختصاص الحصري تُصبح ثمينة لما تُحقّقه من فعاليّة ونجاعة.


3) واجب الاعتراف بقرارات المحكمة المختصّة


حتّى تكون النّجاعةُ كاملةً، جاء الفصل الثّامن من الاتّفاقيّة كنتيجة منطقيّة للطابع الحصري لاتّفاق المحكمة آمرا الأنظمة القانونيّة المتعاقدة الأخرى بقبول القرارات الصّادرة عن المحكمة المختارة والتي صارت قابلة للتنفيذ في بلد الإصدار وذلك دون مراجعة لها من حيث الأصل. ولا تُستثنى من ذلك إلاّ حالات وردت بالتّفصيل وعلى سبيل الحصر بالفصل التّاسع، منها بطلانُ اتّفاق اختيار المحكمة حسب قانون الدولة المختارة أو غياب إعلام المدّعَى عليه برفع الدّعوى أمام المحكمة المختارة أو التّحيّل على الإجراءات أو مخالفة النّظام العام الدّولي للمحكمة الواقع طلب الاعتراف أمامها خاصّة من ناحية احترام حقوق الدّفاع...
والمعلوم أنّ عدم مراجعة القرارات الأجنبيّة وقبولُها بصفة مبدئيّة إلاّ في الحالات الاستثنائيّة المذكورة فقط هي مبادئ في القانون الدّولي الخاص التونسي كما يمكن استخلاص ذلك من الفصل 11 م ق د خ. فالاتّفاقيّة لم تأت بجديد كبير يُذكر في هذا الصّدد، ولكن تأكيدها على وجوب الاعتراف بهذه القرارات من شأنه أن يدعم قوّتها المعنويّة أمام القاضي التونسي.

الخاتمة

إنّ اتّفاقيّة لاهاي حول اتّفاقات اختيار المحكمة اشتركت مع مجلّة القانون الدّولي الخاصّ التّونسيّة في الأرضيّة الفلسفيّة التي تميّزهما وهي قد نجحت بمُقاربتها المتكاملة وبعدد الدّول المشاركة فيها - فقد صادقت عليها إلى حدّ الآن أكثر من 30 دولة - في أن تكون حلولها أكثر نجاعة ممّا يقترحه القانون التّونسي. ولأجل ذلك فهي تستحقّ أن تقع المصادقة عليها سريعا حتّى تستفيد منها المؤسسات الصغرى والمتوسطة التي تحتاج إليها.

 

 

1: (J. KRAMBERGER SKERL, « La prorogation du for : entre contrat et procédure, entre droits et droit international », in Obligations, procès et droit savant, Mélanges en hommage au Professeur Jean BEAUCHARD, LGDJ, 2013, pp. 103-125).

2: هذه الاتّفاقيّة هي من إعداد مؤتمر لاهاي للقانون الدّولي الخاصّ وأهمّيتُها تكمن في تحسين ظروف الاعتراف بالأحكام الأجنبيّة وتنفيذها في كلّ الدّول المتعاقدة. نصّها موجود على الرّابط التّالي:https://assets.hcch.net/docs/70dc7daa-05ad-407b-a159-64ef70ec2a0c.pdf

3: (H, GAUDEMET-TALLON, note sous CA Paris, 10 octobre 1990, RCDIP 1991, p. 605 ; M.-L. NIBOYET et G. DE GEOUFFRE DE LA PRADELLE, Droit international privé, LGDJ 2011, 3e éd. p. 364, n°398 ; B. REMY, « De la profusion à la confusion : réflexions sur les justifications des clauses d’élection de for : réflexions sur les justifications des clauses d’élection de for », JDI, 2011, 1, pp. 51 s).

4: هذا النّجاح ليس نظريّا فحسب إذ تدلّ الإحصائيّات على النّجاح التّطبيقي الباهر لبنود اختيار المحكمة. فأكثر مؤسّسات الاتّحاد الأوروبي تلجأ إليها ( 70 % من المؤسّسات عامة و 90 % من المؤسّسات الكبيرة) . اُنظر :
(J. KRAMBERGER SKERL, art. précité, Mélanges Jean Beauchard, LGDJ, 2013, p.104).

5: الفصول من 38 إلى 40 من مجلّة الإجراءات المدنيّة الألمانية.

6: الفصل 4 من القانون الإيطالي المؤرّخ في 31 ماي 1995 المتعلّق بتعديل القانون الدّولي الخاصّ الإيطالي.

7: الفصل 5 من القانون الاتّحادي السّويسري حول القانون الدّولي الخاصّ المؤرّخ في 18 ديسمبر 1987.

8: الفصل 25 من القانون الأوروبي بروكسيل واحد مكرّر المؤرّخ في 12 ديسمبر 2012 والمتعلّق بالاختصاص القضائي وبالاعتراف وبتنفيذ الأحكام في المادّة المدنيّة والتّجاريّة.

9: الفصل 3148 من المجلّة المدنيّة الكيبيكيّة.

10: اُنظر تكريسَ نفس هذه القاعدة في القانون الأوروبي: CJUE, Benincasa c. Dentalkit Srl, C-269/95 du 3 juillet 1997, par. 29.

11: محكمة الاستئناف بباريس، 12 فيفري 2016 (عدد 2016-58). http://mafr.fr/media/assets/paris-12-fevrier-2016-facebook.pdf
انظر كذلك قرار المحكمة الابتدائيّة بباريس المؤرّخ في 7 أوت 2018 فيما يخصّ قضيّة تويتر: صفحة 81 و82. رابط القرار مُتاح على:
http://entreprises.claisse-associes.com/wp-content/uploads/2018/08/TGI-Paris-7-ao%C3%BBt-2018-UFC-Twitter.pdf

12: في هذا المعنى، (لطفي الشّاذلي ومالك الغزواني)، مجلّة القانون الدّولي الخاص معلق عليها، 2008، صفحة 104.

13: هذا الحلّ يُكرّسه الفصل 10 م ق د خ. وإن كان هذا الحلّ منطبقا على جميع الموادّ القانونيّة فإنّه يتماشى بصفة خاصّة والطّبيعة التّعاقديّة للبند موضوع الدّراسة. فما قرّرته إرادة الأطراف يمكن لذات الإرادة، وإن ضمنيّا، أن تلتقي على التّخلّي عنه. والموقف الاجرائيّ السّلبي للمدّعى عليه يمكن تـأويله في المادّة التّعاقديّة على أنّه تخلّ عن البند القضائي. ومن الطّبيعي، تفاديا لإهدار الوقت، أن يخسِر المدّعى عليه حقّ إثارة البند حال المرور إلى مناقشة أصل النّزاع أي أنّه يتوجّب عليه إثارتُه عند بداية الدّعوى حتّى يُحافظ البند على نجاعته.