منير الفرشيشي: المدير العام لمركز الدراسات القانونية والقضائية
يندرج الإهتمام بالنظام العقاري ضمن وضع الاستراتيجيات العامة للتنمية الوطنية وخاصة الجهوية لأن العقار على اختلاف صيغه وأنواعه يمثل ركيزة أساسية للتنمية وطرق تنظيمها وتطوريها فالعقار إضافة إلى كونه أداة استثمار أساسية فهو كذلك أداة ائتمان ضرورية.
غير أنه لا يجب أن يؤخذ العقار في بعده التنموي فقط بل وجب أخذه كذلك من جانبه الإستحقاقي، لكونه المكون الأساسي للمال المترتبة عنه عديد الحقوق الأساسية، والتي من أهمها حق الملكية، هذا الحق الذي تضمنته أغلب الدساتير الوضعية شأن الدستورين التونسيين القديم والجديد لكنها مع ذلك اختلفت في تحديد نظمها بين من يطلق هذا الحق في بعده الإستحقاقي وبين من يدرجه في مجاله الإجتماعي والإقتصادي وبين من يراوح بين هذا وذاك مثلما هو الشأن للدستور التونسي1 بمعنى أن النظام العقاري التونسي بقدر ما يحقق الضمان الدستوري لهذا الحق في مفهومه الإستحقاقي بقدر ما يسعى لجعله أداة توظيف اجتماعي واقتصادي فالملكية في تونس إذن هي حق فردي لكنها أيضا رافدا اجتماعيا، هذا المذهب تحقق أيضا صلب مجلة الحقوق العينية التونسية فوردت فصولها متناسقة تماما مع المبدأ الدستوري المعتمد2 غير أنه ومع ذلك فإن هذا البعد الوظيفي للملكية لم يرتق إلى الدرجة المرجوة بل على العكس فإن الأوضاع القانونية للعقار في تونس قد ساهمت بطريقة غير مباشرة في إفشال عدة مشاريع تنويه وتعطلت مسيرة التنمية بناء على ذلك وتتجه الملاحظة قبل الوقوف على الأسباب التي أدت إلى هذه النتائج العكسية أن نوضح مسألة تاريخية هامة وذات دلالة دقيقة تتعلق بظاهرة معينة تتجسم من خلالها وضوح العلاقة المستدامة بين المناهج السياسية المعتمدة والخيارات القانونية للنظم العقارية.
حيث ثبت تاريخيا أن كل منظومة سياسية جديدة لها تعبيراتها العقارية أو بالأحرى أن كل نظام سياسي لا يمكن له أن يقوم إلا على أساس تصور لمنظمة اقتصادية واجتماعية جامعة والذي يكون من أهم أسباب تحقيقه وجود رصيدا عقاريا تستجيب لمتطلباته.
هذه القاعدة ولئن تحققت في تونس في أغلب مراحلها التاريخية سياسيا واقتصاديا فإنها غابت عن أهم مرحلة من مراحل التاريخ السياسي التونسي هي مرحلة ما بعد الثورة.
وبيان ذلك لا يقتضي منا سوى الرجوع إلى الماضي للتأكد من أن التقابل بين المراحل السياسية والإقتصادية والتطورات القانونية للنظم العقارية واضح وملموس.
فالأسطورة التاريخية تقول أن قرطاج وحضارتها قد تكونت على يد ملكة فينيقية هربت من مملكتها إلى افريقية بعد أن اشترت مساحة أرض بتونس، الدولة الإسلامية كذلك قد ازدهرت بعد أن توظفت في تونس المشاريع الإقتصادية انطلاقا من تطور منظومة الأوقاف والوعي المالي، الدولة العثمانية المرادية والحسينة اعتمدت في برامجها الإقتصادية والإجتماعية على حسن توزيع الأراضي بعد احصائها "CADASTRA" وحفظها بعد تقسيمها "TOPOS" وانشاء مؤسسة هي الآن شاهدة على ذلك التطور وهي الإدارة العامة لحفظ الأراضي العقارية ما يسمى سابقا بالدفتر الخاقاني عهد الحماية الفرنسية هو أيضا اهتم بالشأن العقاري وكانت من أهم مشاريعه تغيير نظام الملكية العقارية بتونس وذلك بتوحيد سند الملكية العقارية والغاء السندات والنظم القديمة وخلق نظام اشهاري للعقارات والحقوق المتعلقة بها وتسليم سلطة الرقابة العقارية إلى مؤسسة قضائية هي "المجلس المختلط" le tribunal mixte" الذي أصبح الآن المحكمة العقارية وأنشأ أول مرجع تشريعي وضعي لنظام الملكية هو المجلة العقارية التي أصبحت بعد الإستقلال مجلة الحقوق العينية، فترة الإستقلال كذلك لا تستثنى من هذه الظاهرة بل هي فترة قد كانت أكثر الفترات تعبيرا عن هذا التزاوج بين السياسي والإقتصادي والعقاري.
فالإنجازات التشريعية لهذه المرحلة كثيرة ومتعددة ومتنوعة وكذلك منطقية لأن فترة ما بعد الحماية هي فترة دقيقة وذات خصوصية لأنها فترة انشاء الدولة الوطنية لذلك كانت القوانين العقارية تحمل علامات هذه الصبغة المتراوحة بين السياسي والإقتصادي والإجتماعي وهي قوانين قد صدرت بمجرد تحقيق آخر مرحلة من مراحل تحقيق الإستقلال ومن أهم هذه القرارات التشريعية:
1. الغاء قانون الأوقاف : 1957
2. تونسة العقارات الفلاحية : 1964
3. تنظيم الأراضي ذات الإنتفاع المشترك : 1964
4. قانون المسح العقاري الإجباري : 1964
5. صدور مجلة الحقوق العينية
هذا وقد تطورت هذه التشريعات عند كل حالة اقتضاء اقتصادي أو اجتماعي مثل :
1. قانون الغاء الإنزال والكردار
2. قانون تطوير اعمال المسح العقاري الإجباري
3. إصلاح العقارات الفلاحية والزراعية
4. قانون حماية العقار الفلاحي
5. قانون البعث العقاري
6. إصدار مجلة التهيئة الترابية والتعمير
لكن ومع ذلك فإن عدة قوانين مهمة قديمة بقيت قديمة ولم تتطور ما ترتب عنه بالفعل ضعف في المنظومة القانونية العقارية مثل المجال القانوني لأملاك الدولة التي بقيت إلى حدود هذا التاريخ دون منظومة تشريعية متكاملة تحدد مجالها وطرق التعامل عليها أو ما كان قد تحدد منها لكنها لم ترتق إلى درجة تطويرها مثل قانون الأراضي الاشتراكية أو قانون الانتزاع لفائدة المصلحة العامة في جوانبه العقارية أو قانون حماية العقارات الفلاحية الذي لم يكن من الأسباب المساهمة في حماية العقارات الفلاحية.
غير أن الملفت للإنتباه ودون اعتبار ما ذكر من ملاحظات وبخلاف أغلب التجارب السياسية التي مرت بها البلاد التونسية فإن الدولة ما بعد الثورة لم تسعى إلى غلق المناخ العقاري الذي يستوجب تفعيل الطلبات الثورية التي نادى بها الشعب الثائر من تشغيل وصحة ومستلزمات الحياة الكريمة بحيث تكاد لم تعد أي مبادرة تشريعية عقارية في خلال المدة السياسية لجولة الثورة ولم يتبين بناء الى ذلك مشرع الثورة إلى المعادلة الضرورية القائمة بين التنمية والتصفية العقارية، وهي معادلة أثبتت أن انجاز المشاريع يطلب رصيدين وليس رصيدا واحدا هما الرصيد المالي والرصيد العقاري. واعتقادنا لا جدال فيه في أن مسببات الفضل الإقتصادي الذي تعيشه تونس مرده ضعف وتيرة النشوء الاقتصادي والذي مرده ضعف الرصيد العقاري لأن العقار هو مرجع الاعمال وتدخله في مجالات التنمية متعدد وهي:
- المجال الفلاحي
- المجال الصناعي
- المجال السياحي
- المجال الخدماتي
لكن هذا التعدد في الإستعمالات لم يقابله تقلص في العوائق والنقائص ما أدى للقول بأن المجال العقاري في تونس ضعيف الحوكمة والترشيد والتي من الممكن حوصلتها في ثلاث مظاهر أساسية :
1. المظهر الاول: أن المجال العقاري في تونس لا يخضع إلى هيكل حوكمة وترشيد
2. المظهر الثاني: أن النظام العقاري في تونس هو نظام متحرك لكنه غير متطور
3. المظهر الثالث: أن النظام العقاري في تونس مستحدث لكنه غير معاصر
وانطلاقا من هذه المظاهر يمكن الإقرار أن عوائق النظام العقاري تكمن في العوائق التالية :
- العائق الهيكلي
- العائق الموضوعي
أولا - العائق الهيكلي :
لقد عهد القانون إدارة الشأن العقاري إلى هيكلين أساسيين : هيكل قضائي وهيكل حكومي.
1. الهيكل القضائي :
يتفرع المجال القضائي بنفسه إلى هيئة قضائية وهيئة إدارية ويشمل الهيئة القضائية المحكمة العقارية والتي أخصها القانون بولاية مطلقة على مطالب التسجيل العقاري بنوعيه الإختياري والإجباري3 وبولاية جزئية على مطالب التحيين العقاري وذلك برفع الصعوبات القانونية والمادية التي تعترض أصحاب الحقوق عندما يطلبون ترسيم حقوقهم بالسجل العقاري.
أما الهيئة الإدارية فهي الوكالة التونسية للسجل العقاري والتي تتعهد بمسك وإدارة السجل العقاري سواء عند إقامة الرسوم العقارية تنفيذا لأحكام المحكمة العقارية القاضية بالتسجيل سواءا بالاستجابة لطلبات الترسيم المقدمة إليها من أصحاب الحقوق وسائر العمليات العقارية الاخرى المترتبة عليها وهما هيئتان ترجعان بالنظر إلى سلطتي رقابة مختلفتين، فالمحكمة ترجع بالنظر إلى المجلس الاعلى للقضاء في خصوص جانبها القضائي والعدلي وإلى وزارة العدل في خصوص جانبها الإداري والمادي في حين أن وكالة السجل العقاري فهي راجعة بالنظر إلى ولاية وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية وهو وضع أدى إلى عدم إمكانية التنسيق الضروري بين الهيكلين في الناحية اللوجستية وكذلك من ناحية تحديد المناهج الأساسية لحفظ العقارات والحقوق المترتبة عنها للإختلاف الحاصل في فهم النصوص القانونية بين الهيكلين وضمان مبدا التوحيد التشريعي نظرا لعدم وجود هيكل جامع لمجال التحفيظ العقاري وهو اتجاه اعتمدته التجربة التونسية وذلك بعكس التجارب المقارنة التي وحدت الهيكل المتعهد بالتصرف في مجال تحفيظ العقارات وذلك باعتماد النظام الإداري الصرف مثل التجربة المغربية4 أو النظام القضائي5 مثل التجارب الجرمانية.
2. الهيكل الحكومي :
عادة ما تسعى بعض الدول عندما يتعلق الأمر بمجال استراتيجي إلى إخراجه عن السياق العام للتصرف الحكومي وجعله تحت راية هيئة مستقلة دستورية أو غير دستورية وطنية أو جهوية أو حتى محلية وهو منهج قد تم اعتماده لدى عديد الدول الغربية منها وهي من أقدم التجارب أو حتى افريقية وهي تجارب تعتبر حديثة بعض الشيء.
لكن في تونس الأمر يختلف أصلا لأن النظام المعتمد نظام تقليدي قديم متواصل من فترة الحماية إلى ما بعد الثورة بالرغم من أن دستور 2014 قد فتح مجالا دستوريا لمثل هذه الهيئات أساسه النظام الحكومي فالإدارة التنفيذية هي التي يرجع إليها مراقبة التصرف في المجال العقاري وهو نظام أثبت قصوره على مدى فترة اعتماده لأن الإدارة أو بالأحرى السطلة التنفيذية لا يمكنها أن تقدم مقاربات وسياسات وبرامج استراتيجية وإصلاحية بل أكثر من ذلك فإن النظام التونسي علاوة على عدم اعتماده على هيئات حوكمة عقارية مستقلة ومتخصصة فإنه عمد أيضا إلى توزيع الشأن العقاري على مختلف الهياكل الوزارية التي لها علاقة في اختصاصها بالعقار وذلك بالرغم من احداث وزارة وكان ذلك في حوالي سنوات التسعينات تخص وتعنى بالشؤون العقارية هي وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية، بقي الشأن العقاري نتيجة لذلك مشتتا بين الوزارات المتدخلة (الفلاحة – السياحة – التجهيز – الداخلية والعدل) وبين وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية وكنتيجة لذلك بقي الوضع العقاري غير محوكم لتداخل القرارات في شأنه وعدم التنسيق فيها بين الهياكل علاوة على أن مجال تدخل وزارة أملاك الدولة بقي منحصرا في الأمن العقاري الدولي اما باقي عناصر الميدان العقاري بقيت غير محكومة ومن مظاهر التضارب وانعدام التناسق نذكر على سبيل الذكر الحالات التالية :
1. عدم التناسق بين امثلة التهيئة الترابية وبيانات الشهر العقاري في خصوص إشهار الصبغة العقارية.
2. عدم التناسق بين القرارات الإدارية فيما يتعلق بتحديد النظم القانونية للعقارات (أراضي اشتراكية، أملاك دولة، غابات ...)
3. عدم التناسق بين ملفات الأمثلة الفنية بين ديوان قيس الأراضي وإدارة الملكية العقارية
4. عدم التناسق بين أحكام المحكمة العقارية والمحاكم المدنية في المجال العقاري
5. عدم توفر مراجع فنية كافية وإحصائية في إحصاء العقارات من حيث الصبغة.
وعليه فإن مجابهة هذا الضعف في حوكمة العقار للإستجابة لضروريات ومستلزمات التنمية والإستثمار يستوجب خلق هيكل استراتجي جامع للهياكل المتدخلة في المجال العقاري.
ثانيا - العائق الموضوعي:
ويتعلق بكل ما يتصل بالمضمون الموضوعي التشريعي المنظم للمجال العقاري والذي يشكو عدة نقائص وعدة مواطن ضعف يجدر الوقوف عليها وإبرازها وهي :
عدم تحقيق الغايات المنتظرة من اعتماد نظام السجل العقاري والشهر العيني:
إن الأهداف الأساسية التي كانت تستبعد الخلفية التشريعية لنظام الشهر العيني كانت واضحة من خلال الشرع المقوم من المشرع عند اصدار مجلة الأملاك غير المنقولة (المجلة العقارية القديمة) وكانت تتلخص في المحاور التالية :
أولا : توحيد نظام الملكية العقارية والسند (رسم عقاري موحد).
ثانيا : اضفاء الشفافية والعلانية على الوضعية القانونية والمادية للعقارات حماية للمتعاملين على العقارات.
ثالثا : احداث نظام قانوني قاطع من حيث الاستحقاق العقاري واستقرار الحق الملكي العقاري ونزع مطلق للنزاعات والمقومات العقارية.
وعليه فان ملكية بهذه الحماية والوضوح لا تكون سوى دافعا أساسيا في تفعيلها واعتمادها في ارساء منظومة اقتصادية وتنموية وائتمانية غير أن النتائج المرتقبة من هذا الخيار لم تكن مجدية الى حد الان والى حد الان لازالت المؤسسات المتعهدة بتحقيق هذه النتائج تسعى في تحقيق هذه الغايات وذلك بالرغم من مرور أكثر من مائتي سنة على بداية العمل بهذا النظام. ولكي نكون أكثر استدلالا سوف نفرض على التوالي عناصر الشرح التالية :
توحيد النظام العقاري والاستحقاقي:
ان المعنى المقصود بتوحيد النظام العقاري هو الغاء الأنظمة العقارية الأخرى والتي تكون منطقيا غير مواكبة للتطورات الاجتماعية والضروريات الاقتصادية. وعليه فان الفترة التاريخية التي سن خلالها نظام الشهر العيني في تونس كانت في خلالها الملكية العقارية خاضعة لعدة نظم قديمة معطلة ومكبلة للتنمية ذلك لأن كل نظام يعتمد على قواعد واجراءات خاصة بعضها يتجانس وبعضها لا يتجانس مع ضروريات المرحلة تلك علامة على أن أغلب النظم القانونية في ذلك الوقت لم تكن تعتمد على سندات ملكية واضحة وقاطعة، ما أدى الى عدم الاطمئنان عند التعامل عليها.
القانون الجديد للملكية يسعى الى الغاء النظم القديمة وتوحيدها في نظام قانوني على كامل المستويات الشرعية والفنية والمادية للملكية مثل :
- الاعتماد بالخصوص على الملكية الخاصة سواء كانت ملكية فردية أو جماعية (مشاعة) أو دولية (عامة) والغاء بالتالي جميع المظاهر المعطلة لسهولة التعامل مع الملكية العقارية كأراضي الأوقاف أو أراضي العروش أو الأراضي الاشتراكية.
- الاعتماد على وثيقة تملك وحيدة هي سند الملكية (فيها يعرف سابقا بالسند الأزرق) وبالتالي جميع المؤيدات والتوثيقات الأخرى مثل وثيقة الوقف أو وثيقة التنزيل أو وثيقة الاسترعاء أو عقود المغارسة أو الانزال أو الكراء...الخ
- الاعتماد على المرافق الفنية لسند الملكية التي تساعد على تحديد العقار ماديا وفنيا وذلك صلب مقال طبوغرافي يوافق الرسم العقاري ويحسم كل الأعمال القانونية التي تطرأ عليه من قسمات أو تقسيمات..
هذا الهدف كان من المفروض أن يتحقق على كامل العقارات التونسية و على كامل نظم الملكية والمترتبة عليها غير أن هذا الهدف لم يتحقق بعد وذلك بالرغم من أن النظام الوطني قد أحدث نظاما تسجيليا سريعا ذا أولوية في التطبيق مخصص تحديدا للعقارات الفلاحية وذلك بالنظر الى اهتمامات النظام السياسي الموجهة في ذلك الوقت الى الاعتماد على قطاع الفلاحة وكان هذا في فترة الستينات (فترة تذكرنا بسياسة التعاضد) حيث سن مشرع الاستقلال سنة 1964 قانون التسجيل العقاري الاجباري عن طريق المسح L'immatriculation foncière obligatoire par cadastre
ومكن هذا القانون لهذا النظام الطرق الاجرائية السريعة والمرنة حتى تتمكن لجان المسح العقاري من تغطية العقارات الفلاحية بالإشهار مع تتبع المنهج القضائي ضمانا لحماية الحقوق والمكاسب.
نتائج هذه الأعمال لا يمكن انكارها لأن عدة جهات من القطر حققت تطورا نوعيا على مستوى الإنتاج الفلاحي والزراعات الكبرى وخاصة الانتاجات السقوية نذكر منها خاصة مناطق الوطن القبلي وتحديدا منطقة الرقاب بولاية سيدي بوزيد ومنطقة شانشو من معتمدية الحامة ولاية قابس لكنها بقيت نتائج غير كافية وذلك على معنيين :
المعنى الأول: وهو أن نجاح التجربة لم يكن شموليا بل جزئيا بحيث بقيت عدة جهات لم تعرف نفس الوتيرة الى درجة أن أعمال المسح فيها لم تنته بعد وذلك لصعوبات في التضاريس أو ضعف الموارد التقنية أو خاصة في عدم قابلية بعض العقارات فيها الى العمل المسحي كالأراضي الاشتراكية في ولاية مدنين أو أراضي العروش في ولاية قبلي.
المعنى الثاني: أنه ولئن نجحت بعض التجارب المسحية في بعض المناطق التونسية فإنها نجاحات لم تتصف بالديمومة وذلك لسببين أساسييين، اما لعدم الاستغلال السليم لبعض الأراضي الممسوحة (أي المسجلة) وعدم ايجاد طرق الحوكمة الضرورية لإنجاح تلك المناطق اقتصاديا وانتاجيا أو لعدم قدرة نظام الشهر العقاري نفسه على المحافظة على بريق العقار المسجل وذلك لسقوطه في الجمود (شرح أسباب جمود الرسوم العقارية سيقع عرضه في موطن متقدم من هذه الدراسة).
ان عدم قدرة النظام العقاري على التغطية الشاملة للعقارات من أجل التوحيد القانوني لها لا يقتصر فقط على المسح العقاري وعواقبه بل يخص كذلك نطاق التسجيل الاختياري بحيث يتراءى هنا المشرع التونسي بشيء من التناقض لأنه من ناحية يأخذ في ميدان التسجيل بمبدأ الاختيارية في حين أن الغاية التي يرمي اليها هذا النظام هي توحيد النظم القانونية لذلك لم يكن مردود التسجيل الاختياري أكثر فاعلية من نتائج التسجيل الاجباري.
وعليه فان عدم قدرة النظام العقاري التونسي على توحيد نفسه أدى الى وجود تواصل الحالة القديمة المجسمة لتعددية النظم العقارية بحيث من ناحية لم يتمكن من توحيدها و من ناحية أخرى لم يتمكن من الغاء النظم القديمة بل على العكس قد أضاف نظاما جديدا على النظم السائدة هو نظام العقارات المسجلة و الذي بدوره خلق من نفسه نظاما وليدا هو نظام الرسوم المجمدة.
في مسألة تحقيق مبدأ العلانية :
العلانية في شهر العقارات هو ليس هدفا فقط بل هو عنوان نظام الشهر العيني وروحه، على اعتبار أن العلنية هي وليدة الشهر والاشهار العقاري منذ نشأته، كانت غايته الأساسية هي اعطاء الغير من المتعاملين على العقارات حتى يكون هذا الأخير على علم كامل بالحقيقة الصحيحة للوضعية القانونية للعقار المتعامل عليه وفي ذلك ضمان لاستقرار الحقوق العقارية كما يؤدي الى ايجاد الرصيد العقاري المؤسس للتنمية والمشجع للاستثمار وعلى ذلك الأساس أوجب المشروع على أن يتولى الأطراف المتعاملة على العقار المشهور اشهار كل عملية عقارية وقع احداثها كالبيع والاحالة والرهن و القسمة والارث..الخ وبذلك تحمى حقوق الغير.
غير أن تحقيق هذا المبدأ لا يمكن أن يقوم ويتحقق بنفسه بل يتطلب توفر شروط ومبادئ أخرى أهمها ثلاث قواعد على الأقل :
الأولى: أن يكون كل مالك متحوزا بسند ملكية مطابق لبيانات السجل العقاري حتى تكون المعاملات العقارية ميسرة اذ تتم العمليات المذكورة بالاطلاع على ذلك الرسم أو السند وليس بالاعتماد على السجل نفسه.
الثانية: أن يكون السجل العقاري علاوة على ذلك مطابقا هو كذلك للحالة القانونية الحقيقية التي عليها العقار موضوع المعاملة ما يعبر عنه بالمصطلح القانوني بالسجل المحين.
وضع مخالف تماما لما هو عليه الوضع بالسجلات العقارية فلأسباب عديدة سيقع شرحها أصبح السجل العقاري في تونس غير قادر على احتواء الأوضاع الصحيحة للعقارات المسجلة وأصبح بالتالي من غير القاطع أن يكون الاطلاع على السجل العقاري كافيا للتأكد من الوضعية القانونية الصحيحة للعقارات وبالتالي فإن مبدأ الشفافية والعلانية يصبح معتلا.
الثالثة: أن يكون مبدأ الإشهار مقترنا بقاعدة أخرى هي قاعدة التحوير المعتمد أي ألا تخضع العمليات العقارية إلى قاعدة تحوير عامة مماثلة للقواعد العادية بل أن تتميز بقاعدة تحويرية خاصة بالمعاملات العقارية المتعلقة بالرسوم العقارية لأن قاعدة التحرير هذه تندرج ضمن الحماية المرجوة من نظام الشهر المبني على مبدأ العلانية.
مسألة الإستقرار الإستحقاقي :
يؤدي التسجيل العقاري إلى إحداث وضعية استحقاقية قارة ومستقرة والتحولات التي تطرأ عليها هي تحولات محكومة وممسوكة بقوة القاعدة الأصولية لنظام السجل العقاري هي قاعدة الشرعية. عدة قواعد أخرى مهمة تؤدي وتضمن الإستقرار الإستحقاقي هي قاعدة عدم امكانية التمسك بالتقادم المكتسب لحق الملكية المسجلة، في خلاصة من كل ذلك أن العقار المسجل لا يحتمل وجود نزاعات حول الإستحقاق المترتب عن الملكية المسجلة، ومع ذلك فإن النظام العقاري التونسي لم ينجح في إخراج العقار المسجل من إطار النزاعات وحالات عدم الإستقرار الإستحقاقي وهو أمر يخرج العقار من سياقه التنموي والإئتماني بل يصبح عائقا من عوائقها.
إن دخول العقار المسجل في المجال التنازعي قد ترتب في الحقيقة عن اختيارات المشرع غير الصائبة لعدم تماشيها مع خصوصيات نظام السجل العقاري. نذكر منها على الأقل ثلاث ملامح :
أولها: عدم اعتماد نظام السجل العقاري على قاعدة الأثر المنشأ للترسيم عند انشائه مما أدى إلى وجود عدة رسوم عقارية غير قادرة على استيعاب عامل العمليات التي تعنيها مما جعلها غير قادرة على مواكبة ومطابقتها لأوضاعها الحقيقية محاولات المشرع كانت متنوعة بغاية إعانة هذه الرسوم على أن تتحين وتطابق مع أوضاعها من تجربة أولى إدارية كانت ثم إلى التجربة القضائية التي لازالت قائمة إلى حدود هذا التاريخ.
ثانيها: إن تحيين الرسوم العقارية وتخليصها الجمود أصبح عملا قضائيا تختص به المحكمة العقارية، نظامه القضائي يسمح بتقديم الإعتراضات التنازعية ضد طلبات التحيين وهو ما يفتح باب التداعي والتخاصم حول استحقاق عقارات من المفروض أن تكون الملكية فيها مستقرة. في بدايته كان هذا التنازع ابتدائي الدرجة لكنه أصبح الآن تقاضيا على درجتين بعد التنقيح الذي أورده المشرع سنة 2007 وهو منهج خطأ لما فيه من تمديد للأجل القضائي المعتمد لتحيين الرسوم العقارية وهو مظهر من مظاهر التأزم الإستحقاقي في الرسوم العقارية.
ثالثها: أن أحكام التسجيل العقاري التي هي بالأساس أحكام استقرائية لكن غير تنازعية وعلى الرغم من أن الخيار القضائي في التسجيل العقاري هو خيار إيجابي من حيث القدرة الحمائية التي يضمنها وذلك بخلاف الخيار الإداري فإن المشرع التونسي قد تجاوز هذا الخيار الأساسي وهو الخيار غير التنازعي إلى الخيارات التنازعية وذلك بإقراره لنظام الطعن في أحكام التسجيل فمنذ سنة 2007 وبتعلة حماية حقوق الإنسان وتكريسها على الوجه الصحيح فقد أقر المشرع وفي تخالف تام مع فلسفة التسجيل العقاري، إمكانية الطعن بالتعقيب في أحكام التسجيل أمام محكمة التعقيب في شيء يشبه كثيرا التعقيب المدني وبذلك أيضا اِزدراء الزمن القضائي في ميدان التسجيل العقاري وشجع ذلك أيضا على عدم استقرار الأوضاع القانونية للعقارات بين الفترة الإبتدائية والفترة التعقيبية وما ترتب عن ذلك من صعوبات في التعامل على العقارات المتحولة بهذا السياق.
وخلاصة لعناصر المسألة الأولى والمتعلقة بتسوية الوضعيات العقارية عبر نظام الشهر العقاري تستطيع القول أن عوائق هذه المسألة تتحدد في النقاط التالية:
1. إعادة النظر في قواعد مسك السجل العقاري بقصد إعادة إحياء الرسوم العقارية المجمدة.
2. إعادة النظر في هيكلة المحكمة العقارية وإدخالها في منظومة القطب القضائي العقاري بإدماج الهياكل المتدخلة فيه وذلك بقصد :
- التمكين المالي المستقل للقطب القضائي العقاري حتى يتمكن من تحقيق أهداف الإصلاح العقاري وتنمية رصيده.
- إفراد المحكمة العقارية في إطار عمل القطب القضائي العقاري باختصاصات مطلقة في كامل النزاعات العقارية الإدارية المتولدة عن استغلال أو التصرف في العقارات مهما كانت صبغتها أو نظمها وكذلك في كل ما يتعلق بالنزاعات العقارية القضائية للعقارات المسجلة.
3. القيام بالدراسات التقييمية اللازمة للتجارب الجارية بخصوص :
- نظام التسجيل العقاري الإجباري.
- نظام مسك السجل وتقنيات تحرير الصكوك وإدارة شأن الرسوم العقارية وتوحيد نظم مسكها إداريا.
- تقييم تجربة التحيين العقاري القضائي ومدى تفعيل قواعد انتاج الرسم المحين.
4. إعادة النظر في مؤسسة الخبير المساح والنظر في كيفية تطوير العمل الطبوغرافي علميا وتقنيا وقانونيا بإحداث مؤسسات التكوين المزدوج القانوني العقاري والفني الطبوغرافي.
1 اقتضت أحكام الفصل 41 من الدستور على ما يلي :
"حق الملكية مضمون ولا يمكن النيل منه إلا في الحالات وبالضمانات التي يضبطها القانون"
الملكية الفكرية مضمونة".
2 جاء بالفصل 20 من م.ح.ع. ما يلي "لا يجبر أحد على التنازل على ملكه إلا في الأحوال التي يقررها القانون وفي مقابل تعويض عادل"
كما حدد بالفصل 21 من م.ح.ع. أيضا "على المالك أن يراعي في استعمال حقه ما تقتضيه النصوص التشريعية المتعلقة بالمصلحة العامة أو بالمصلحة الخاصة".
3 لقد أحدثت المحكمة العقارية منذ عهود الحماية وذلك بموجب صدور المجلة العقارية القديمة التي نشأت في 1 جويلية 1885 وكانت تسمى بالمجلس المختلط ثم تمت تونستها مع جملة المحاكم والمجالس القضائية وذلك بموجب المرصد للمحاكم التونسية وعهد لها منذ ذلك التاريخ النظر في مطالب التسجيل العقاري الطي توسع بموجب مرسوم المسح العقاري الإجباري.
4 يعتمد النظام المغربي على النظام الإداري للتحفيظ العقاري وأولى شؤونه إلى إدارة الملكية وديوان قيس الأراضي لكنه فتح مجال التنازع على الصعيد القضائي العام إذا ثبت أن مطالب التسجيل قد وقع الإعتراض عليها.
5 من الأنظمة الجرمانية التي اعتمدت على نظام التحفيظ الموحد النظام الألماني والسويسري وهما من أشهر الأنظمة التي تعتمد على النظام القضائي وتحديدا مؤسسة قاضي السجل العقاري.