ياسين عمار: قاضي باحث بمركز الدراسات القانونية والقضائية.
لقد شهد العمل الاجرامي تطورا لا مثيل له وصار يعبر حدود الدول وينتعش من مزايا التطور التكنولوجي ولم تجد الدول بدا من التكاتف في سبيل مقاومته بالنظر الى اتباعه مناهج تتجاوز قدرة الدول في بعض الأحيان، اذ تحول الاجرام من مجرد اعمال معزولة الى أنشطة منظمة تقودها تنظيمات مهيكلة لها من الإمكانيات ما ساعدها على تحقيق أرباح طائلة تعمل على استثمارها بإقحامها في الدورة الاقتصادية بعد إضفاء طابع الشرعية عليها.
وفي هذا الاطار يندرج الحديث على جريمة غسل الأموال كإحدى الجرائم المستحدثة والتي تهدد اقتصاد الدول وتستدعي جهدا مضنيا في سبيل مكافحتها، ترجم بإبرام الاتفاقيات الدولية وسن قوانين زجرية تهدف الى تتبع المال المتحصل عليه من الجرائم وملاحقة الجناة.(محجوب الجبالي، الجرائم الإرهابية، مجلة القضاء والتشريع، أكتوبر 2010، صفحة 315) وقد انخرط المشرع التونسي في هذا السياق لما اصدر القانون عدد 75 لسنة 2003 المؤرخ في 10 ديسمبر 2003 المتعلق بدعم المجهود الدولي لمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال او عند المصادقة على الاتفاقيات الدولية او الإقليمية لمكافحة الفساد أو حتى عند إصداره لجملة من التشريعات المتعلقة بمكافحة الفساد لينتهي المطاف الى اصدار قانون جديد يتعلق بغسل الأموال وهو القانون عدد 26 لسنة 2015 المؤرخ في 07 أوت 2015 مثلما تم تنقيحه بموجب القانون الأساسي عدد 9 لسنة 2019 المؤرخ في 23 جانفي 2019.
والمتأمل في جملة هذه النصوص يلفي ترابطا بينها الغاية منه مكافحة الفساد بمختلف اشكاله، وفي هذا الإطار لابد من الإشارة الى ان جريمة غسل الأموال لا تعدو ان تكون سوى تمظهرا للفساد وهو ما أكد عليه المشرع في عديد النصوص. (الفصل الثاني من المرسوم الاطاري عدد 120 لسنة 2011 المؤرخ في 14 نوفمبر 2011 يتعلق بمكافحة الفساد، والفصل الثاني من القانون عدد 10 لسنة 2017 المؤرخ في 07 مارس 2017 المتعلق بالإبلاغ عن الفساد وحماية المبلغين)
لقد تعددت النصوص القانونية التي تعرضت الى جريمة غسل الأموال وتطورت نظرة المشرع إليها من خلال الإصلاح التشريعي الذي ادخله على الإطار القانوني المتعلق بها، مسايرة لما افرزته التطبيقات القضائية وما ذهب اليه القانون المقارن من مقاربات في هذا الخصوص. وفي خضم هذا الحراك الحقوقي من المهم تسليط الضوء على هذه الجريمة توضيحا لخصوصية مفهومها وتحديدا لأركانها في التشريع التونسي حتى يرفع اللبس.
ويعرفها الفقه بكونها "كل عملية تستهدف إضفاء مظهر الشرعية على أموال تم الحصول عليها من مصدر غير مشروع" (محمد كمون، فقه القضاء التونسي ومكافحة الفساد، 2018، صفحة 68، متوفر على هذا الرابط: recueil_jurisprudence.pdf (inlucc.tn) ) ولم يحد فقه القضاء عن هذا التعريف (منذ أول حكم قضائي في هذا الخصوص حكم جنائي عدد 24042 بتاريخ 27/02/2012 صادر عن المحكمة الابتدائية بتونس، مرورا بالقرار التعقيبي الجزائي عدد 46154 بتاريخ 10/10/2017 والحكم الجنائي الصادر تحت عدد 37876 بتاريخ 28/06/2018 عن المحكمة الابتدائية بتونس وارد بمقال القاضي محمد كمون، المرجع السابق، صفحات 77، 130 و161) وتعد جريمة غسل الأموال من أخطر الجرائم على الاقتصاد الوطني او حتى الدولي، باعتبارها وسيلة لتحقيق المطمع النهائي للمجرمين المتمثل في الاستفادة من محصول النشاط الاجرامي بعد اكساءه الطابع الشرعي فتفتح الباب على مصرعيه لاستشراء الفساد وهو ما جعل الفقه يطلق عليها عبارة تبييض الأموال (وهو تعبير مجازي، يراجع في هذا الخصوص محجوب الجبالي، نفس المرجع السابق، صفحة 317) تمييزا لها عن جريمة تسويد الأموال التي تأخذ اتجاها معاكسا بجعل المال الذي يمكن ان يكون شرعيا مبذولا للقيام بأنشطة إجرامية. ويفهم من ذلك ان جريمة غسل الأموال تقتضي قيام نشاط اجرامي سابق تم من خلاله كسب مال ثم العمل على جعل ذلك المال يأخذ مظهرا شرعيا.
وقد اعتبر القضاء التونسي جريمة غسل الاموال من قبيل الجرائم المتشعبة عملا بالفصل 2 من القانون الأساسي عدد 77 المؤرخ في 06/12/2016 المتعلق بالقطب القضائي الاقتصادي والمالي. (الحكم الجنائي عدد 37876 بتاريخ 28/06/2018 الصادر عن المحكمة الابتدائية بتونس، ورد بمقال القاضي محمد كمون، نفس المرجع السابق، صفحة 160) وكغيرها من الجرائم يشترط لقيامها من الناحية القانونية توفر ثلاث أركان وهم الركن الشرعي، المادي والمعنوي. وبخصوص الركن الشرعي من المهم الإشارة الى التطور الذي حصل على المستوى التشريعي المتعلق بالجريمة المذكورة اذ تم الغاء القانون عدد 75 لسنة 2003 بموجب القانون عدد 26 لسنة 2015 الذي صار الإطار التشريعي الناص على تجريمها وعقابها اعتبارا لكونها جريمة قصدية تقتضي توفر القصد الجنائي العام والخاص.
غير ان خصوصيتها تبرز من خلال وجود توفر ركن خصوصي وهو الركن المفترض (الجزء الأول). كما يمتاز ركنها المادي بجملة من الخصوصيات مقارنة بجرائم أخرى، فمن المتعارف عليه ان الركن المادي لأي جريمة يقتضي اولا توفر السلوك المادي الذي يسعى الى الاعتداء على المصلحة التي يحميها القانون ويأخذ تمظهرا في العالم الخارجي، ثانيا النتيجة الاجرامية وهو الاعتداء المتحدث عنه مع الاخذ بعين الاعتبار احكام جريمة المحاولة وثالثا لابد من توفر العلاقة السببية بين السلوك الاجرامي المادي والنتيجة الاجرامية غير ان الركن المادي في جريمة غسل الأموال يقتضي سلوكا ماديا خصوصيا (الجزء الثالث) يكون موضوعه مالا غير شرعي المصدر (الجزء الثاني).
الجزء الأول الجريمة الاصلية:
ان الخاصية الأساسية التي تميز جريمة غسل الأموال هي المصدر غير المشروع للأموال ذلك ان التبرير الكاذب ينصب على الصبغة غير المشروعة لمصدر المال. الذي يكون كذلك متى كان ناجما عن نشاط اجرامي يستوجب عقابا بالسجن لا يقل عن ثلاث سنوات او متى كان من صنف الجنح الديوانية. ويطلق الفقه والقضاء على ذلك النشاط الاجرامي تمسية "الجريمة المفترضة" او "الجريمة الاصلية." (محمد كمون، نفس المرجع السابق، صفحة 86) وقد يتساءل الملاحظ في هذا الخصوص أولا عن سبب اعتماد المشرع المعيارين المذكورين حتى يتم إضفاء الصبغة غير الشرعية على مصدر الأموال.
وثانيا عن المقصود بالعقاب المستوجب هل هو العقاب القانوني ام العقاب القضائي؟ لقد دقق المشرع سنة 2015 مفهوم انعدام المشروعية على مصدر الأموال حتى تتوفر جريمة غسل الأموال لما أضاف المعيارين الجديدين اللذين لم ينص عليهما بالفصل 62 من قانون 2003. ويعتبر الفقه ان المشرع قد مر بذلك من مرحلة الاعتماد على المنهج الشامل الى المنهج المختلط في رسم ملامح الركن المفترض علما وان المنهج الأخير هو عبارة عن خليط بين منهج اللائحة والمنهج الحدي. (يراجع في هذا الخصوص عبد الرزاق الحنيني، غسل وتهريب عائدات الفساد المالي والإداري واليات استرجاعها، مجلة القضاء والتشريع، جانفي 2014، الصفحات 33 و34، محمد كمون، نفس المرجع السابق، صفحة 166).
وعلة هذا التحديد هو اقصاء الجرائم التي لا يمكن من خلالها تحقيق أرباح مالية ذات بال او بالأحرى التي لا تكتسي خطورة بالغة وبالتالي تولى استبعادها (وذلك عملا بالمطة ب من الفقرة الثانية من المادة السادسة من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية المعتمدة والمعروضة للتوقيع والتصديق في 15 نوفمبر 2000 والمعروفة باتفاقية "باليرمو") كما يعود ذلك الاختيار الى ندرة الجرائم المعاقب عليها بأقل من ثلاث سنوات بالمجلة الجزائية.
وفي المقابل فإن المشرع وضع "استثناء" للحالة الأولى واخذ بالجنح المعاقب عليها بأقل من المدة المذكورة عندما تكون من صنف الجنح الديوانية وذلك توسيعا لدائرة التجريم في هذا الصنف من الجرائم بالنظر الى الظرف العام الوطني او الإقليمي الي يقتضي تضييق الخناق على الجرائم المرهقة للاقتصاد الوطني كالتهريب. (محمد كمون، نفس المرجع السابق، صفحة 166) وقد بين فقه القضاء أن المال "المدنس" عادة ما يكون محصول جرائم الرشوة والاختلاسات والاتجار في المخدرات أو الأسلحة. (حكم جنائي عدد 24042 بتاريخ 27/02/2012 صادر عن المحكمة الابتدائية بتونس، قرار تعقيبي جزائي عدد 46154 بتاريخ 10/10/2017، وارد بمقال القاضي محمد كمون، نفس المرجع السابق، الصفحات 78 و130) أما بالنسبة لصنف العقاب فيبدو ان مقصد المشرع هو العقاب القانوني باعتباره يخضع لقاعدة المساواة ويبتعد عن مبدإ تفريد العقوبة التي من الممكن ان تجعل من الفعلة الواحدة تستهدف لعقاب متغير حسب ملابسات الواقعة وظروف المتهم الشخصية.
لقد نص المشرع التونسي بقانون 2015، وعلى خلاف قانون 2003، على استقلالية "الجريمة الاصلية" عن جريمة غسل الأموال وذلك توسيعا لدائرة التجريم وهو ما تأكد من خلال عدم الاعتداد بمكان ارتكاب الجريمة الاصلية، اذ تظل الجريمة قائمة الأركان ومحل تتبع حتى ولو كانت الجريمة الاصلية مرتكبة خارج التراب التونسي ويعد هذا التمشي تكريسا للتوجه الدولي في هذا الخصوص (الفصل السادس من اتفاقية باليرمو) الذي يرمي الى ضمان تتبع تلك الأموال أينما حلت. (حافظ العبيدي، خصوصية تجريم وزجر غسل الأموال في القانون التونسي، مجلة القضاء والتشريع، ماي 2011، صفحة 19)
وقد تساءل الفقه عن تبعات الاستقلالية المذكورة بين الجريمتين ومداها خاصة فيما يهم قيام الجريمة الأصلية قضائيا. فمن المتعارف عليه ان الجريمة لا يمكن الحديث عن قيامها على الساحة القانونية الا متى تم تتبعها وإصدار حكم قضائي بات في شأنها. والقول باستقلالية جريمة غسل الأموال عن الجريمة الاصلية من الممكن ان يؤول الى عدم انتظار مئال التتبعات الجزائية في شأنها وعليه من الممكن طرح التساؤل التالي هل يمكن ان تقوم جريمة غسل الأموال حتى وان حكم بعدم سماع الدعوى الاصلية؟
اثارت استقلالية الجريمة الاصلية عن جريمة غسل الاموال جدلا واسعا سيما وان لها ابعاد إجرائية تهم الركائز الأساسية للمحاكمة العادلة المتمثلة في تمتع المتهم بقرينة البراءة وتطبيق مبدا عدم تتبع شخص من اجل نفس الفعلة مرتين. لقد عرف الجدل المذكور أوجه في ظل تطبيق القانون عدد 75 لسنة 2003، اذ اختلفت الاحكام والقرارات القضائية الصادرة في تطبيق الفصل 62 من القانون المذكور واتخذ فقه القضاء موقفين.
فأما الاتجاه الأول فقد اعتبر ان قرينة البراءة تفرض على جهة الادعاء إقامة الدليل القاطع على توفر الركن المفترض المتمثل في حكم قضائي بات سيما وان المتهم غير مطالب بالإدلاء بما يفيد شرعية مصدر الأموال بمناسبة قضية جزائية في غسل الأموال. وقد انتهى أنصار هذا الاتجاه الى تلك النتيجة بناء على ما لاحظوه من عموم عبارات الفصل 62 المذكور الذي اقتصر على ان تكون الجريمة الاصلية من صنف الجنح او الجنايات دون تحديد اخر وبالتالي ما دام المشرع قد اقتصر على ذلك التنصيص دون بيان اخر على خلاف نظيره الفرنسي فإنه لا يمكن الحديث عن تواجد جريمة اصلية في غياب حكم بات عملا بمبدإ التأويل الضيق للنص الجزائي.
اما الاتجاه الثاني فقد ذهب الى استبعاد اشتراط ثبوت الجريمة الاصلية بموجب حكم قضائي بات بل يكفي قيام الجريمة الأصلية بمجرد توفر قرائن على ارتكابها ويخضع قيامها في هذه الصورة الى تقدير القاضي بما توفر له من عناصر بملف القضية بل ان الاستقلالية تفترض عدم التقيد بالتتبعات المثارة بخصوص الجريمة الاصلية (حافظ العبيدي، نفس المرجع السابق، صفحة 19 و20) او حتى بقيامها وإدانة مقترفها وقد عبر عن ذلك الفقه بالاستقلالية الموضوعية بين الجريمتين (محمد كمون، نفس المرجع السابق، صفحة 166) وقد علل المدافعون عن هذا الاتجاه موقفهم بالصياغة العامة للفصل 62 المذكور فيما يتعلق بتحديد الجريمة الاصلية (محمد كمون، نفس المرجع السابق، صفحة 133). وفي هذا الصدد اعتبروا ان اشتراط حكم قضائي بات لقيام الجريمة الأصلية يعد من إضافة لاحكام تشريعية جديدة. (محمد كمون، نفس المرجع السابق، صفحة 134).
وقد اوعز الفقه سبب الاختلاف في مواقف المحاكم تجاه نفس الفصل الى سوء صياغة الفصل 62 من القانون عدد 75 لسنة 2003 (محمد كمون، نفس المرجع السابق، صفحة 132). غير انه بقراءة متكاملة للفصل المذكور خاصة الفقرة الأخيرة منه والناصة على قيام جريمة غسل الأموال بقطع النظر عن مكان ارتكابها الذي يؤكد الاستقلالية بين الجريمتين. (حافظ العبيدي، نفس المرجع السابق، صفحة 19). وبقطع النظر عن تلك المسألة فقد تجاوز المشرع كل تلك النقاشات بموجب القانون عدد 26 لسنة 2015 إذ نص المشرع صراحة صلب الفقرة الثالثة منه على استقلالية الجريمة الاصلية عن جريمة غسل الأموال وان اثبات الأولى يكون "بتوفر ما يكفي من القرائن والأدلة" دون ضرورة لصدور حكم قضائي بات في ثبوتها. (علي كحلون، النظام القانوني لجرائم الإرهاب وغسل الأموال، مجلة القضاء والتشريع، جوان 2017، الصفحة 73)
الجزء الثاني: المال موضوع الغسل
يتمثل موضوع الجريمة في الأموال غير مشروعة المصدر وهي تعد من "عائدات الفساد" (الفصل الثاني المرسوم الاطاري عدد 120 لسنة 2011 المؤرخ في 14/11/2011 المتعلق بمكافحة الفساد) وقد بين المشرع طبيعة تلك الأموال سواء من حيث نوعها او من حيث مصدرها.
اما من حيث نوعها فقد نص المشرع على ان تلك الأموال يمكن ان تكون أموالا منقولة وأخرى عقارية او مداخيل وبالتأمل في هذا التفصيل يتبين وان المشرع قد تجاوز التقسيم الثنائي للأموال المعتمد في مجلة الحقوق العينية التي فرقت بين العقار والمنقول (الفصل 2 من المجلة المذكورة)، وعليه تبدو الإشارة الى التنصيص على المداخيل مسالة مستحدثة لكن التنصيص عليها يظل غير ضروري سيما وانها ستندرج بالضرورة في خانة المال المنقول رغم ان جانبا من الفقه يرى ان ذكرها يعكس نية المشرع في توسيع دائرة التجريم (حافظ العبيدي، نفس المرجع السابق، صفحة 17).
كما ان التقسيم المعتمد من طرف المشرع للأموال في هذا الفصل لا يتماشى مع التعريف الذي اعتمده سواء في الفصل الثالث من قانون 2015 (إذ يعرف الفصل الثالث منه الأموال بأنها "الممتلكات بكل أنواعها المتحصل عليها باي وسيلة كانت، مادية أو غير مادية، منقولة او غير منقولة، والمداخيل والمرابيح الناتجة عنها والسندات والوثائق والصكوك القانونية، مادية كانت او الكترونية، التي تثبت ملكية تلك الممتلكات او وجود حق فيها او متعلق بها"). او في نصوص أخرى اعم كذلك الوارد بالفصل الثاني المرسوم الاطاري عدد 120 لسنة 2011 المؤرخ في 14/11/2011 المتعلق بمكافحة الفساد (اذ يعرف عائدات الفساد بكونها "الأموال بكل أنواعها سواء مادية أو غير مادية، منقولة أو غير منقولة وكذلك المستندات والصكوك التي تثبت ملكيتها أو وجود حق فيها المتأتية أو المتحصل عليها بشكل مباشر أو غير مباشر من ارتكاب إحدى جرائم الرشوة والفساد بما في ذلك الثمار والمداخيل بكل أنواعها.") من ناحية أخرى بين المشرع ان تلك الأموال يمكن ان تكون متأتية مباشرة من الجريمة الاصلية او بصفة غير مباشرة من خلال تحويل شكلها او طبيعتها.
(حافظ العبيدي، نفس المرجع السابق، صفحة 18). من ناحية ثالثة لم يبين المشرع قيمة المال غير شرعي المصدر حتى يتم تتبعه، ومن الممكن افتراض وضعية واقعية تتمثل في سرقة هاتف جوال ثم بيعه وادراج المال المتحصل عليه في حساب جار فهل يمكن تتبع الجاني الذي يدمج المال في الحساب البنكي في هذه الصورة من اجل غسل الأموال علما وان جريمة السرقة المجردة جنحة يعاقب مرتكبها بالسجن لمدة خمسة أعوام عملا بالفصل 264 من المجلة الجزائية؟ لم ينظر فقه القضاء في هذه المسالة سيما وان الجرائم المعروضة على القضاء الى حد هذا التاريخ غالبا ما ارتبطت بفساد مالي تكون عائداته المالية هامة.
غير انه وفي غياب أي موقف في هذا الخصوص من الممكن الاعتماد على مبدإ اجرائي هام وهو ملائمة التتبع الوارد بالفصل 30 من مجلة الإجراءات الجزائية الذي يتيح للنيابة العمومية عدم اثارة التتبع من اجل جريمة غسل الاموال متى كان المال زهيدا. غير انه من المهم في هذا الخصوص تبني موقف منطقي حتى لا يتم ارهاق كاهل المحاكم بقضايا من اجل مبالغ ضئيلة.
الجزء الثالث: السلوك المادي
عادة ما يأخذ هذا السلوك شكلين الأول إيجابي وهو فعل ما وجب تركه والثاني سلبي يتمثل في ترك ما وجب فعله، غير ان السلوك المادي في جريمة غسل الأموال يتخذ شكلا إيجابيا يتمثل في السعي الى الباس المال غير مشروع المصدر عباءة شرعية وادخاله في الدورة الاقتصادية ويتم ذلك بإتيان الجاني احدى الأفعال المنصوص عليها سواء بالفقرة الأولى او الفقرة الثانية من الفصل المذكور.
وللأفعال المذكورة تمظهر خارجي قد يحقق اثرا معينا (محمد كمون، نفس المرجع السابق، صفحة 87)، بما يعني ان المشرع قد فرق بين صورتين للركن المادي فأما الأولى فتتمثل في التبرير الكاذب للمصدر غير المشروع للأموال (الفقرة الاولى) واما الثانية فتتعلق بإدارة تلك الأموال (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: التبرير الكاذب للمصدر غير المشروع للأموال
يتمثل هذا السلوك في تزييف للوقائع وقد نص المشرع على ان ذلك التبرير يكون باي وسيلة دون تحديد لنوع الوسيلة. وهذا التمشي يبدو امرا محمودا لان الوسائل المعتمدة قد تختلف وتخضع لسنة التطور خاصة في ظل الثورة المعلوماتية وسرعة نسق اعتماد وسائل الاتصال الحديثة من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن اعتماد الصياغة العامة من طرف المشرع سيحقق نجاعة في مكافحة جرائم غسل الأموال.
وقد حافظ المشرع التونسي على هذا التمشي مند قانون 2003. (حافظ العبيدي، نفس المرجع السابق، صفحة 14) غير ان عبارة "التبرير الكاذب" تبدو مستجدة في النظام القانوني التونسي وأول ما يتبادر للذهن هو استحضار الأفعال المادية لجريمة التحيل المتمثلة في اعتماد تزييف الحقائق باعتماد الخزعبلات وتزيين الواقع ببث امل غير موجود او غير محقق الوقوع، غيران الفرق بين الجريمتين يكمن في زمن تزييف الوقائع ففي التحيل يتم ذلك قبل استلام المال، اما في جريمة غسل الأموال فيقع تزييف الحقائق بعد الحصول على المال.
ولئن كان قيام الجريمتين ماديا يقوم على وسائل الخداع الا ان المشرع في جريمة غسل الأموال لم يحصر الوسيلة التي يتم بها تزييف الحقائق حتى يتم اصباغ تبرير كاذب على الأموال المتأتية من أنشطة إجرامية. ان استحضار المقارنة المذكورة بين الجريمتين يجد أهميته في السؤال الذي طرحه الفقه بخصوص الصورة التي تكون فيها وسيلة التمويه واقعة تحت طائلة التجريم فهل تتم مؤاخذة مرتكبها أيضا من اجل ارتكاب الفعلة المجرمة التي ترمي الى إضفاء المظهر الشرعي لمصدر الأموال، كأن تكون عملية التمويه تتمثل في تدليس او افتعال لوثيقة معينة؟
لم يتعرض المشرع لا في قانون 2003 (حافظ العبيدي، نفس المرجع السابق، صفحة 15) ولا في قانون 2015 الى هذه الإشكالية وقد أشار جانب من الفقه خاصة في ظل قانون الإرهاب القديم الى إعمال القواعد العامة للقانون الجزائي المتعلقة بتوارد الجرائم خاصة وان كلا القانونين نصا على إمكانية الاحتكام الى تلك القواعد ما لم تتعارض مع احكامه. (بخصوص قانون 2003 يراجع الفصل 3 واما بالنسبة لقانون 2015 يراجع الفصل 4 منه، فيصل عجينة، تجريم غسل الأموال، مذكرة للإحراز على شهادة الماجستير في قانون الاعمال، كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس، 2009، صفحة 59) غير ان فقه القضاء قد عرف تطورا في هذا الخصوص وذلك بالمرور من مرحلة اشتراط الصبغة الاجرامية للوسيلة المعتمدة (الحكم الابتدائي عدد 29682 الصادر عن المحكمة الابتدائية بتونس تحت عدد 29682 بتاريخ 14/04/2015 والقرار الاستئنافي عدد 22954 بتاريخ 16/03/2016 موجودين بمقال القاضي محمد كمون، نفس المرجع السابق، الصفحات 119 و127) الى مرحلة عدم اشتراط الصبغة الاجرامية لتلك الوسيلة، ذلك ان علة التجريم في جريمة غسل الأموال هي الصفة غير المشروعة لمصدر المال من جهة (محمد كمون، نفس المرجع السابق، الصفحة 134) ومن الغاية التي يرمي اليها الجاني المتمثلة في اصباغ لباس الشرعية على تلك الأموال، من جهة أخرى. (الحكم المدني الصادر عن المحكمة الابتدائية بتونس تحت عدد 37876 بتاريخ 28/06/2018) ويعتبر الاتجاه الأخير الأقرب لمقصد المشرع اعتبارا وانه لم ينص على تلك الصبغة.
الفقرة الثانية: التصرف في الأموال غير مشروعة المصدر
لقد تم اقتباس عبارة التصرف في الأموال غير المشروعة اعتبارا وأنها اشمل من عبارة إدارة الأموال المذكورة خاصة وان المشرع قد نص على عبارة إدارة كوجه للتصرف في تلك الأموال. ويختلف السلوك الثاني الوارد بالفقرة الثانية عن نظيره المقرر بالفقرة الأولى بدء من تنصيص المشرع على كلمة "يعتبر"، ما يوحي بان المشرع قد تبنى صنفا اخر من السلوك المتمثل في التجريم بالاعتبار خاصة وانه لم يورد تلك الكلمة في تعريفه لجريمة غسل الأموال بالفقرة الأولى.
وسبب ذلك ان المشرع اضفى صفة التجريم عليها اعتبارا لعدم مشروعية المال والا فإن تلك الأفعال لا تشكل في حد ذاتها جريمة. (محمد كمون، نفس المرجع السابق، صفحة 166، حافظ العبيدي، نفس المرجع السابق، الصفحة 17). ثانيا نص المشرع على ان السلوك المادي المجرم في جريمة غسل الاموال بالفقرة الثانية يتمثل في التصرف في الأموال المذكورة وفقا للطرق المشار اليها والمتمثلة في الفعل الذي يهدف الى توظيفها او إلى ايداعها او اخفائها او مويهها او ادارتها او ادماجها او حفظها او محاولة القيام بذلك او المشاركة فيه او التحريض عليه او تسهيله او الى المساعدة في ارتكابه. ويستدعي التنصيص الوارد بالفقرة الثانية ابداء جملة من الملاحظات:
أولا لم يعزل المشرع هذا العمل الاجرامي عن الفقرة الأولى للفصل أعلاه اعتبارا وان الامر يختلف في هذه الصورة فقط في التعامل مع المال غير مشروع المصدر ذلك ان موضوع السلوكين الماديين ذاته ويتمثل في المال غير مشروع المصدر وفق التحديد الوارد بالفقرة الأولى.
ثانيا ترمي جميع الأفعال المعددة بالفقرة الثانية الى ادماج المال غير مشروع المصدر بالدورة الاقتصادية حتى تحقق الربح ويضرب الفقه مثلا على ذلك المزج بأموال مشروعة حتى يتحقق التمويه (حافظ العبيدي، نفس المرجع السابق، صفحة 15)، غير ان الاشكال يتعلق بمعرفة مدى تأثير عنصر تحقيق الربح في قيام جريمة غسل أموال كان يكون الإدماج او الإيداع بغاية التبرع. لقد استبعد الفقه قيام جريمة غسل الأموال في تلك الصورة رغم ان المشرع لم ينص على ذلك صراحة. (حافظ العبيدي، نفس المرجع السابق، صفحة 15)
ثالثا ان إخفاء الأموال غير مشروعة المصدر يتم في صورتين الاخفاء المادي أي إبقاء الأموال المذكورة بحيازة الجاني مع تستره عليها ويتم كذلك بالإخفاء القانوني المتمثل في تخفي الجاني ويتم نقل ملكية تلك الأموال الى "مالك مستعار" (حافظ العبيدي، نفس المرجع السابق، صفحة 16).
رابعا ان السلوك الاجرامي لجريمة غسل الأموال "بالإعتبار" بالفقرة الثانية من الفصل 92 من القانون عدد 26 لسنة 2015 ليس الاعمال التي عددها المشرع بل هو كل فعل يرمي الى تحقيقها او محاولة ذلك او المشاركة فيها ومن امثلة ذلك النقل المادي للأموال ذات المصدر غير المشروع. (حكم جنائي عدد 24042 بتاريخ 27/02/2012 صادر عن المحكمة الابتدائية بتونس، وارد بمقال القاضي محمد كمون، نفس المرجع السابق، صفحة 87)
خامسا ان الافعال المتمثلة في "كل فعل قصدي يهدف الى توظيف أموال متأتية بصفة مباشرة او غير مباشرة، من الجرائم المنصوص عليها بالفقرة السابقة، او إلى ايداعها او اخفائها او مويهها او ادارتها او ادماجها او حفظها" تعد افعالا اصلية حتى وان قام بها شخص غير مرتكب الجريمة الأصلية على خلاف ما ذهبت اليه بعض الاحكام القضائية التي اعتبرتها نوعا من المشاركة. (حكم جنائي عدد 24042 بتاريخ 27/02/2012 صادر عن المحكمة الابتدائية بتونس، وارد بمقال القاضي محمد كمون، نفس المرجع السابق، صفحة 84)
سادسا من الملاحظ ان المشرع في هذه الفقرة قد أضاف افعالا أخرى لم تكن متواجدة بالفصل 62 من قانون 2003 وهي التي أطلق عليها المشرع عبارة "تمويه" تلك الأموال او "محاولة القيام بالأفعال المنصوص عليها او المشاركة فيها او التحريض عليها او تسهيلها."
فأما بالنسبة لفعل التمويه فينطوي بدوره على تزييف للحقائق وهو ما يعتبر بدوره تبريرا كاذبا لمصدر تلك الأموال بما يطرح التساؤل حول الفائدة من استحضار هذا الفعل صلب الفقرة الثانية من الفصل 92 من قانون 2015 والحال ان عبارة التبرير الكاذب لمصدر تلك الأموال يستوعب فعل التمويه.
اما بخصوص المحاولة والمشاركة فإن المشرع وعلى خلاف الفقرة الاولى من الفصل 92 نص على تجريم محاولة القيام بالفعل الرامي الى التصرف في الأموال غير المشروعة او المشاركة فيه. وذلك التنصيص يبعث على التساؤل حول قيمته القانونية فهل يعني ذلك استبعادا للنظرية العامة لجريمة المحاولة والمشاركة الواردتين بالفصلين 32 و59 من المجلة الجزائية؟
لقد طرح التساؤل بحدة في ظل القانون 2003 وذلك بخصوص المشاركة اذ نص الفصل 62 من القانون المذكور على تجريم المساعدة في إتيان الفعل الرامي الى التصرف في المال غير المشروع، إذ ذهبت المحكمة الابتدائية بتونس الى ان الشريك في جريمة غسل الأموال تتم مقاضاته على معنى الاحكام العامة لجريمة المشاركة الواردة بالفصل 32 من المجلة الجزائية،( المحكمة الابتدائية بتونس في حكمها عدد 24042 بتاريخ 27/02/20212، ورد بمقال القاضي محمد كمون، نفس المرجع السابق، صفحة 83) وفي القابل يرى الفقه ان التنصيص المتحدث عنه يعني ان المشرع اعتبر جريمتي المحاولة والمشاركة في الفقرة المذكورة جرائم اصلية ويبدو هذا الموقف منطقيا اعتبارا وان الفعل الرامي للتصرف في الأموال غير المشروعة ليس فعلا اجراميا في حد ذاته بل هو يستعير تللك الصفة من المال "الملوث" وبالتالي فإنه لا يمكن ترتيب جرائم تابعة له. (محمد كمون، نفس المرجع السابق، صفحة 166، حافظ العبيدي، نفس المرجع السابق، الصفحة 17).
الخاتمة:
يتبين من خلال هذا البحث دور فقه القضاء في التشريع، ذلك انه من خلال التطبيقات القضائية تبين وان قانون غسل الأموال القديم لم يتعرض الى مسائل هامة تتعلق بالركن المادي للجريمة المذكورة ما أمكن ان يمس من المبادئ الجوهرية للمحاكمة العادلة فكان التدخل التشريعي ضروريا لإعادة النظر في المسائل الخلافية بسن قانون 2015 ما يؤكد ضرورة التفاعل الإيجابي بين التشريع والقضاء.