ورد في رسالة القضاء من عمر بن الخطّاب لأبي موسى الأشعري رضي اللّه عنهما "أنّه لا ينفع تكلّم بحقّ لا نفاذ له".
وتعتبر ظاهرة عدم تنفيذ الأحكام القضائيّة بصفة عامّة والأحكام الإداريّة بصفة خاصّة ظاهرة سيّئة، ومهما كانت إحصائيّات عدم التّنفيذ، فإنّ المسألة تنمّ عن خلل مؤسّساتي يضرب حسن سير القضاء ومنظومة العدالة ويفقدها فعاليّتها كما يزعزع ثقة المواطن-المتقاضي بالقضاء وبالدّولة ويمثّل عبثا بمؤسّسات الدّولة ومساس بهيبتها ويرقى تبعا لذلك إلى مرتبة الفساد.
وقد ألزمت المادّة 2 من العهد الدّولي الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسّياسيّة لسنة 1966 المصادق عليه من الدولة التونسية "كلّ دولة طرف فيه بأن "تكفل قيام السّلطات المختصّة بإنفاذ الأحكام الصّادرة لصالح المتظلّمين من انتهاك حقوقهم وحريّاتهم".
الفرع الأوّل: هشاشة النّسيج القانوني
إنّ المتأمّل للنّسيج القانوني الوطني المنظّم لمسألة تنفيذ أحكام القضاء يلاحظ ضعف الإطار التّشريعي (الفقرة أولى) وغياب الاجتهاد القضائي في فرض أحكامه (الفقرة الثّانية).
الفقرة الأولى: ضعف الإطار التّشريعي
بالرّجوع إلى التّرسانة القانونيّة المؤطّرة لمسألة عدم التّنفيذ، فقد نصّ الدستور التّونسي لسنة 2014 في الفصل 111 من باب السّلطة القضائيّة على أن "تصدر الأحكام باسم الشّعب وتنفّذ باسم رئيس الجمهوريّة، ويحجّر الامتناع عن تنفيذها أو تعطيل تنفيذها دون موجب قانوني".
كما ورد أيضا بالفصل 2 من القانـون أساسي عدد 10 لسنة 2017 المؤرخ في 7 مارس 2017 المتعلق بالإبلاغ عن الفساد وحماية المبلغين (منشور بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية، عدد 20، بتاريخ 10 مارس 2017، ص.ص. 765-768) الذي عرّف من بين مظاهر الفساد "تعطيل قرارات السلطة القضائية"، فضلا عمّا تنصّ عليه المعاهدات والمواثيق الدولية.
وهنا وجب تأويل مفهوم "الموجب القانوني" الواردة بالدّستور التّونسي على أنّه يتعلّق بحالات "عدم التّنفيذ" التي حصرها المشرّع صراحة في صور إيقاف تنفيذ حكم قضائي، على غرار الفصول 64 و70 و71 و78 و79 و86 من القانون المتعلّق بالمحكمة الإداريّة لسنة 1972 (قانون أساسي عدد 40 لسنة 1978 مؤرخ في 1 جوان 1972، منشور بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية، السنة 115، عدد 23، بتاريخ 6 جوان 172، ص.ص. 788-794).
وبالتّالي فإنّ حالات مخالفة القانون التي تطرح على صعيد الواقع تنحصر فقط في صور "عدم التّنفيذ المقصود" من الإدارة للحكم القضائي، ناهيك وأنّه لا توجد آليّات للتّنفيذ الجبري على الإدارة لعدم جواز استعمال القوّة العامّة للتّنفيذ ضدّها أو إجراء عقلة على الممتلكات العموميّة.
في هذا الصّدد ينصّ الفصل 10 من قانون المحكمة الإداريّة على أنّه "يعتبر عدم التّنفيذ المقصود لقرارات المحكمة الإداريّة خطأ فاحشا معمّرا لذمّة السّلطة الإداريّة المعنيّة بالأمر".
من مآخذ هذا النصّ القانوني أنّه يعدّ مخرجا للإدارة للتفصّي من احترام حجيّة الأمر المقضي فيه، وتحصينا لها من واجب التّنفيذ المكرّس دستوريّا منذ سنة 2014.
ذلك سيؤدّي بالضّرورة إلى عدم تنفيذ الحكم القضائي وحرمان المتقاضي من حقوقه الأساسيّة التي توصّل بها قضائيّا وخاصّة في مادّة إلغاء القرارات الإداريّة بواسطة الطّعن بدعوى تجاوز السّلطة، عملا بمقتضيات الفصل 9 من قانون بالمحكمة الإداريّة الذي "يوجب على الإدارة إعادة الوضعيّة القانونيّة التي وقع تنقيحها أو حذفها بالمقرّرات الإداريّة الواقع إلغاؤها إلى حالتها الأصليّة بصفة كليّة".
سيؤول الأمر بالضّرورة إلى الخروج من طور تنفيذ الحكم القضائي الإلغائي وإلى الرّجوع إلى الطّور القضائي التّعويضي، ومن ثمّ الدّخول في حلقة مفرغة من التّقاضي.
ينضاف إلى ذلك إلزام الدّولة قضائيّا بدفع تعويضات ماليّة بعنوان الضّرر المادّي والمعنوي النّاتج عن عدم التّنفيذ والتي تدفع من خزينة الدّولة، الأمر الذي سينجرّ عنه تحميل دافعي الضّرائب مسؤوليّة خطأ ارتكبه رئيس الإدارة التي امتنعت عن تنفيذ الحكم القضائي الإداري
.
يذكر أنّ عديد الدّول ابتكرت آليّات تشريعيّة لضمان التزام الإدارة بتنفيذ الأحكام لفائدة المواطنين، وعلى غرار ذلك ألزم الدّستور الجزائري في الفصل 145 منه كلّ أجهزة الدّولة المختصّة بأن تقوم في كلّ وقت وفي كلّ مكان وفي كلّ الظّروف بتنفيذ أحكام القضاء، ونسج الدستور السّوداني لسنة 1998 على نفس المنوال.
ولعلّ شخصنة العقوبات يعدّ حسب تقديرنا الحلّ الأجدى والأنفع لضمان حجيّة الشّيء المقضي به، وقد ذهب القانون الفرنسي إلى حدّ اقتطاع غرامات التّأخير من أموال المسؤول الأوّل في الإدارة عن عدم تنفيذ الحكم القضائي (القانون الفرنسي الصّادر في 29 جانفي 1993 والقانون الصّادر في 24 جويلية 1995).
وأكثر من ذلك جرّم المشرّع المصري عدم التّنفيذ وأقرّ عقوبة بالسّجن تسلّط على كلّ مسؤول إداري يمتنع عن تنفيذ حكم اداري لفائدة مواطن، وقد كرّس التّشريع الفلسطيني ذلك سنة 2003 بأن سلّط عقوبة السّجن وكذلك العزل إذا كان معطّل التّنفيذ موظّفا، كما أقرّ تحمّل الدّولة ضرورة التّعويض للمتضرّر.
يظلّ القانون التّونسي يشكو غياب النّصوص التي تؤسّس للمسؤوليّة المدنيّة للشّخص المسؤول عن عدم التّنفيذ، وخاصّة انتفاء الإجراءات الزّجريّة الكفيلة بضمان تنفيذ الأحكام القضائيّة.
الفقرة الثّانية: غياب الإرادة الفقه قضائيّة
لئن طبّقت المحكمة الإداريّة النّصوص القانونيّة القاضية بالتّعويض عن عدم تنفيذ أحكامها، إلاّ أنّها رفضت توجيه أوامر وأذون للإدارة لإجبارها على تنفيذ الحكم القضائي أو بيان كيفيّة تنفيذه وآجال ذلك خاصّة لعدم وجود نصوص قانونيّة تنظّمها، خلافا لما كرّسه التّشريع الفرنسي بالقانون عدد 125/1995 بتاريخ 8 فيفري 1995 الذي خول محاكم مجلس الدولة بمختلف درجاتها سلطة توجيه أوامر للإدارة والحكم عليها بغرامة تهديدية لضمان تنفيذ الأحكام الصادرة منها ضد الإدارة.
علاوة على ذلك فإنّه يجوز القول أيضا أنّه عديد الحالات لا يحتاج الشّيء المقضي به إلى حكم قضائي آخر يعمل على تنفيذه وتفعيل حجيّته وخاصّة تجنّبا للحلقة المفرغة من التّقاضي.
كما تجنّبت المحكمة الحلول محلّ الإدارة بإحلال الحكم القضائي محلّ القرار الإداري واعتباره سندا تنفيذيّا في حدّ ذاته يقوم مقام القرار الإداري احتراما منها لمبدأ الفصل بين السّلطات ولغياب نصّ قانوني ينظّم هذه المسألة لا سيما وأنّ القانون تعرّض فقط للطّور القضائي إلى حدود النّطق بالحكم وتبليغه إلى الأطراف دون أن يجاوز ذلك إلى مرحلة الحرص على تنفيذه خلافا لما ينتظره المتقاضي الذي لا يعنيه سوى إيصاله بحقوقه وترجمة ذلك فعليّا على صعيد الواقع
.
إلى جانب ذلك لم يتمّ إعمال تقنية الغرامة التّهديديّة أو الزّجريّة Astreinte، المعمول بها في القانون الفرنسي لسنة 1980 (القانون الفرنسي الصّادر تحت عدد 539/1980 بتاريخ 16 جويلية 1980 المتعلق بتنفيذ الأحكام بواسطة أشخاص القانون العام والغرامات التهديدية التي تصدر في المجال الإداري)، بما أنّها غير منظّمة بالقانون التّونسي فضلا عن أنّه من شأنها أن تثقل ميزانيّة الدّولة، إذ تتمثّل في تسليط غرامة يوميّة على الإدارة عن كلّ يوم تأخير في التّنفيذ.
أمّا بخصوص القضاء العدلي، فقد وجدت بعض الاجتهادات القضائية نحو محاولة فرض تطبيق أحكام الفصل 315 من المجلة الجزائية على حالات رفض تنفيذ الأحكام القضائية (الصادرة بموجب القانون عدد 23 لسنة 1968 المؤرخ في 24 جويلية 1968 المتعلق بإعادة تنظيم قانون المرافعات الجنائي المنشور بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية عدد 31 المؤرخ في 26 و30 جويلية 1968) والذي ينصّ على أنّه "يعاقب بالسجن مدة خمسة عشر يوما وبخطية قدرها أربعة دنانير وثمانمائة مليم :أولا : الأشخاص الذين لا يمتثلون لما أمرت به القوانين والقرارات الصادرة ممن له النظر".
ومن ذلك ما ذهبت إليه محكمة التّعقيب في القضيّة عدد 7323 بتاريخ 24 نوفمبر 1982 من أنّ "الفصل 315 هو نصّ عام يشمل القرارات الإداريّة والعدليّة على حدّ السّواء دون تفضيل"، غير أنّ المحاكم لم تواصل في تكريس ذلك التّأويل متمسّكة بمبدأ شرعيّة الجرائم والعقوبات
الفرع الثّاني: بين الحلول الترقيعيّة والحلول الجذريّة
إن مسألة تنفيذ الأحكام القضائية وخاصة أحكام المحكمة الإدارية تعد من أسباب فقدان المواطن لثقته المشروعة في مؤسسات الدولة، لذلك كان من الضروري على الدّولة التّسريع في إيجاد الحلول لمعضلة "عصيان الإدارة" (الفقرة الثّانية) سيما أنّ الحلول التّوفيقيّة والصلحيّة باءت بالفشل (الفقرة الأولى).
الفقرة الأولى: التوفيق والوساطة
أحدثت مؤسسة مصالح الموفق الإداري بموجب القانون عدد 51 لسنة 1993 بتاريخ 3 ماي 1993 (منشور بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية، السنة 136، عدد 35، بتاريخ 11 ماي 1993، ص. 633)، وهي مؤسسة عمومية ذات صبغة إدارية تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي تعمل باستقلالية كما تمّ تمكينها من صلاحيات واسعة للتدخل لفائدة المرتفقين لدى الإدارة وكلّ الهياكل المكلّفة بمهمة تسيير مرفق عمومي.
كما أحدثت خطّة الموفق الإداري بموجب الأمـر عـدد 2143 لسنة 1992 المــؤرخ في 10 ديسمبر 1992 (منشور بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية، السنة 135، عدد 84، بتاريخ 18 ديسمبر 1992، ص. 1599) ويساهم الموفق الإداري في معالجة الآثار المترتبة عن إخلال سير المرفق العمومي سواء تعلق الأمر بتطبيق القاعدة القانونية أو بصمت الإدارة أو بتأخرها في الردّ على طلبات المتظلَم كما يتدخل وقائيا لإيجاد حلول لتظلمات المرتفقين في تعاملهم مع الإدارة وتفادي النَزاعات والمسالك القضائية المكلفة والمرهقة
.
غير أنّ المطّلع على التّقارير السّنويّة لمصالح الموفق الإداري يلاحظ أنه لا يتوصّل إلى فضّ النّزاع سوى بخصوص نسبة قليلة من القضايا.
وفي هذا الصّدد يذكر أنّ المحكمة الإداريّة تقوم منذ صدور الأمر عدد 3698 لسنة 2008 المتعلّق بإتمام الأمر عدد 2173 لسنة 1990 المؤرخ في 24 ديسمبر 1990 المتعلق بتنظيم الكتابة العامة للمحكمة الإدارية (منشور بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية، عدد 99، بتاريخ 9 ديسمبر 2008، ص. 4091) بلعب دور الوسيط بين المتقاضي والإدارة، إذ مكّنت المتقاضي من التشكّي من صعوبات التّنفيذ أمام دائرة استشاريّة مكلّفة بإعداد ومتابعة ملفّات تنفيذ الأحكام والقرارات، وتتولّى الوساطة والتدخّل لدى الإدارة لحثّها على تنفيذ الحكم القضائي، إلاّ أنّ نسبة استجابة الإدارة لمساعي التّنفيذ تبقى ضئيلة نسبيّا (رغم صدور منشور عن رئيس الحكومة بتاريخ 10 ماي 2010 يتعلّق بدعوة كافّة المصالح الإداريّة إلى ضرورة تنفيذ الأحكام الصّادرة ضدّ الإدارة).
الفقرة الثّانية: نحو إصلاح تشريعي منشود
من الجدير التذكير أنّه تمّ منذ شهر ماي 2020 تقديم مبادرة تشريعيّة تتعلّق بمشروع قانون عدد 37 لسنة 2020 يتعلّق بتنفيذ أحكام المحكمة الإداريّة، وهو لا زال في مرحلة النّقاش داخل اللّجنة البرلمانيّة، كما أنّ المحكمة الإداريّة أصدرت منذ شهر جوان 2020 مشروعا لمجلّة القضاء الإداري، والتي من المزمع تقديمها في صيغة مبادرة تشريعيّة في موفّى سنة 2020.
وعليه نظّم مشروع المجلة مسألة تنفيذ الأحكام ضمن الفصول من 284 إلى 293، ومن ذلك ما أقرّه الفصل 293 من إحداث لجنة وطنية لمتابعة تنفيذ الأحكام الإدارية لدى المحكمة الإدارية العليا.
إضافة إلى ذلك أوجب مشروع المجلة بالفصل 290 منه على رئيس الإدارة الذي يتعمد عدم تنفيذ الحكم تحمل المسؤولية المدنية والجزائية عن ذلك ويمكن مؤاخذته أمام القضاء ويكون المكلف العام بنزاعات الدولة مكلفا بتتبع المسؤولين عن عدم التنفيذ
.
علاوة على ذلك أقرت المجلة ضمن الفصل 288 منها إمكانية تسليط غرامة مالية على الإدارة على كل يوم تأخير في تنفيذ الحكم.
هذا فضلا عن اعتبار الفصل 291 من مشروع القانون الامتناع عن تنفيذ الأحكام خطأ تصرف على معنى أحكام القانون المتعلق بمحكمة المحاسبات يستوجب المحاسبة.
إلى جانب غياب التّنزيل التّشريعي للمبدأ الدّستوري الذي يحجّر الامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائيّة أو تعطيل تنفيذها دون موجب قانوني الذي ساهم في مزيد تفشّي الظّاهرة وتناميها، فإنّ المسألة تعزى في جلّ الحالات إلى عقليّة متوارثة في رفض الانصياع لحكم القضاء بما أنّ الفراغ التّشريعي لا يحول بالضّرورة دون التزام الإدارة بتنفيذ أحكام القضاء إعمالا لسيادة دولة القانون.