بقلم ختام الجماعي

سلطات القاضي الإداري في توجيه أوامر إلى الإدارة

مطرقة القاضي وميزان العدالة
pixabay_Gericht

إنّ المتابع للقضاء الإداري التونسي يدرك بصفة جلية اتساع مجال اختصاصه وتطوّر فقه قضائه القائم على تكريس التوازن بين حماية حقوق المتقاضين وحرياتهم من جهة وتمكين الإدارة من تحقيق أغراضها الّتي تشهد تعقيدا متسارعا من جهة ثانية.

غير أنّ هذا التطور على مستوى الرقابة القضائية، يبقى عديم الجدوى، ما لم تتبعه خطوات جريئة من شأنها أنّ تدفع الإدارة على إحترام الأحكام القضائية وتلزمها بها بإعتبار أنّ تنفيذ الأحكام يبقى الهدف المنشود من اللجوء إلى القضاء ("إذ لا ينفع التكلم بحق لا نفاذ له")من رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري.

 

ذلك أنّ القانون عدد 40 لسنة 1972 المؤرّخ في 1 جوان 1972 والمتعلّق بالمحكمة الإداريّة) الرّائد الرّسمي للجمهوريّة التّونسيّة عدد 23 بتاريخ 2 جوان 1972، من الصفحة738 الى 742)، لم يتضمن نصا صريحا يكرس مبدأ حظر توجيه أوامر إلى الإدارة، على خلاف ما كان عليه الحال في ظل الأمر العليّ المؤرّخ في 27 نوفمبر 1888 والمتعلّق بالخصام الإداري الذي أوكل للمحاكم المدنيّة النظر في النزاعات الإدارية الرامية إلى التصريح بأن الإدارة مدينة (قضاء التعويض) ومنع بصفة صريحة توجيه أوامر الى الإدارة،كما أن المنع الوارد بالفصل الثالث من القانون عدد 38 لسنة 1996 المؤرخ في 3جوان 1996والمتعلّق بتوزيع الإختصاص بين المحاكم العدليّة والمحكمة الإداريّة وإحداث مجلس تنازع الإختصاص إنما هو موجه حصرًا إلى المحاكم العدلية (اقتضى الفصل الثالث من القانون عدد38 لسنة 1996 المؤرخ في 3جوان 1996والمتعلق بتوزيع الاختصاص بين المحاكم العدلية والمحكمة الإدارية وإحداث مجلس لتنازع الاختصاص، الرّائد الرّسمي للجمهوريّة التّونسيّة عدد 47 بتاريخ 11 جوان 1996، من الصفحة1144 الى 1151)" تحجير النظر في المطالب الرامية إلى إلغاء المقررات الإدارية أو الإذن بأي وسيلة من الوسائل التي من شأنها تعطيل عمل الإدارة أو تعطيل سير المرفق العمومي وفقا لما كرسه فقه القضاء الإداري (يراجع الحكم الابتدائي الصادر عن المحكمة الادارية بتاريخ 25 أكتوبر 2008 عدد 16103/1 " حيث استقر فقه قضاء هذه المحكمة على أنه تطبيقا للفصل الثالث المذكور فإن المحاكم العدلية هي المعنية وحدها بقاعدة تحجير توجيه أذون إلى الإدارة.")

رغم كلّ ذلك فإن القاضي الإداري لم يحد في غالب أحكامه عن مبدأ الحظر الّذي يبقى نتاج مجموعة من العوامل يرجع أهمها إلى تبني تفسير تقليدي لمبدأ الفصل بين السلطات بما له من دوافع تاريخيّة وسياسيّة، وهو مبدأ لا يوجد أيّ مبرّر لمواصلة تكريسه والعمل به مثلما دعا إلى ذلك شق كبير من الفقهاء ورجال القانون بعد الوقوف على مساوئه، هذا علاوة عن تجاوزه من بلد المنشأ (فرنسا) بداية من سنة 1980، ضرورة أن المشرع الفرنسي منح للقضاء الإداري سلطة توجيه أوامر صريحة ومباشرة للإدارة من أجل إلزامها بتنفيذ الأحكام التي يصدرها، كما مكنه من سلطة استخدام أسلوب التهديد المالي في مواجهة جهة الإدارة في حالة امتناعها عن تنفيذ أحكامه بموجب القانون عدد 80- 539 الصادر بتاريخ 16 جويلية 1980.( . Loi n° 80-539 du 16 juillet 1980 relative aux astreintes prononcées) en matière administrative et à l'exécution des jugements par les personnes morales de droit public ; JORF 16 juillet 1980 P1799.)

الاتجّاه الداعي إلى ضرورة إباحة توجيه أوامر إلى الإدارة لم يقتصر فقط على المؤلّفات الفقهيّة والدّراسات البحثيّة بل وجد صداه لدى القاضي الإداري الّذي جعل من الموازنة بين المصلحة العامّة ومصلحة الأفراد مسألة متحرّكة وغير ثابتة يديرها ويوجّهها بحسب ملابسات كلّ ملفّ، فنجده في بعض الأحيان يسعى إلى إستنباط حلول إجرائيّة بغاية التّصدّى لحالات تعسّف الإدارة عند إستعمالها لسلطتها العامّة في معنّاها الواسع، لينتهي في أحيان أخرى إلى توجيه أوامر لها عند النّطق بالحكم سواء كان بالإلغاء أو بالأداء كلّما زاغت هذه الأخيرة عن الهدف الّذي رسمه لها القانون.

إن التسّليم بالدّور الخلاق للقاضي الإداري كنتيجة لإجتهاده وإقراره لمبادئ مثّلت بداية القطع مع مبدأ منع توجيه الأوامر ولو بصورة محتشمة ونسبيّة (المبحث الأوّل) لا يمّكن أن يحجب الحاجة الملحة اليوم إلى ضرورة تفعيل سلطاته وتدعيمها من خلال إقرار الآليّات القانونيّة الضّامنة لتنفيذ أحكامه حتىّ لا تفقّد هذه الأخيرة قيمتها ولا يجد التّعسف الإداري ملاذه مرّة أخرى في عدم التّنفيذ (المبحث الثاني).

المبحث الأوّل: إقرار نسبي لإمكانيّة توجيه القاضي الإداري أوامر إلى الإدارة

إن المتأمّل في العمل القضائي يمكنه الوقوف على أنّ دور القاضي لا يقتصر على التّطبيق الحرفي للنّصوص القانونيّة والتقيّد بالإجراءات القانونيّة المنظّمة للمنازعات الإداريّة بل أنه يذهب في الكثير من الأحيان إلى إستنباط أحكّام ومبادئ فقه قضائيّة تحمل في طيّاتها إقرارا من جانبه بأحقيّته في توجيه أوامر الى الإدارة سواء كان ذلك أثناء سير التّحقيق في الدّعوى (1) أو في مستوى مآل الحكم في الدّعوى (2).

1- على مستوى سير التحقيق في الدّعوى:

تتميّز إجراءات التحقيق لدى القضاء الإداري بالاستقلالية بمعنى أنّ القاضي يتقيّد بالأحكام الإجرائية الخاصّة الواردة بالقانون المنظم للمحكمة الإداريّة المؤرّخ في 1 جوان 1972 وهو ما يقتضي مبدئيا إستبعاد قواعد مجلة المرافعات المدنية والتجارية (عياض ابن عاشور، القضاء الإداري وفقه المرافعات الإدارية، مركز النشر الجامعي،2006، ص 135.) الّتي قد يلجأ اليها عند الحاجة ويستأنس بأحكامها. (الحكم الصادر في مادة الاعتراض بتاريخ 15 جويلية 2011 في القضية عدد 57111 "إزاء غياب نص صريح ينظم مسألة الاعتراض على قرار صادر في مجال تعديل مصاريف اختبار تم إجراؤه بتكليف من جهة القضاء الإداري فقد جرى عمل هذه المحكمة على تطبيق أحكام مجلة المرافعات المدنية والتجارية كلما دعت الحاجة إلى ذلك.)

من مميزات هذه الاجراءات أيضا طابعها التوجيهي والاستقصائي الّذي يخوّل للقاضي الإداري توجيه أعمال التّحقيق خاصّة في مادّة الإثبات من خلال الإذن بجميع الإجراءات الكفيلة بتيسير البتّ في الدّعوى ومطالبة الأطراف بتقديم الحجج عبر جميع طرق الإثبات وبالتالي إمكانية إستنباط أحكام إجرائيّة على أساس الإجتهاد خاصّة إذا ما إندرجت في نطاق المبادئ العامّة للقانون.( القرار التعقيبي الصادر في القضية عدد 310596 بتاريخ 4 جوان 2011 :" إن عدم تطرّق قانون المحكمة الإدارية إلى حالة التعقيب ثانية لعدم رضا أحد الطرفين بما انتهى إليه قاضي الموضوع يجيز للقاضي الإداري في ظلّ الفراغ التشريعي المذكور، اللجوء إلى أحكام الفصل 176 من مجلة المرافعات المدنية والتجارية باعتبارها لا تتعارض مع القواعد الأصولية للمنازعات الإدارية. وطالما أنّ موضوع القضية مهيّئ للفصل وأنّ التعقيب مرفوع للمرّة الثانية ولغير الأسباب التي تمّ من أجلها النقض الأوّل فإنّه يتجه، ضمانا لحسن سير القضاء وتفاديا لتأبيد النزاع، البتّ نهائيا في الأصل".)

إذ يلعب القاضي الإداري عند مباشرته للدّعوى دورا إجرائيا هامّا من خلال تمتّعه بواسع من الحرية في إختيار وسائل الإثبات وتقدير مدى حجيتها ولا يقيده في ذلك سوى إحترام مبدأ المواجهة (René Chapuis, droit du contentieux administratif ; 12 édition, Montchrestien, E.J.A,2006 pages 817-818.) وهو ما عملت المحكمة الإدارية على إقراره معتبرة أن الإجراءات أمامها تكتسي الطّابع الاستقصائي الّذي يمنح القاضي الإداري سلطات واسعة في مجال التحقيق للبحث عن الحقيقة بالمبادرة بجمع الحجج وتهيئة القضيّة للفصل بواسطة كلّ الوسائل القانونيّة والّتي تكتسي طابعا توجيهيا يتكفّل فيه القاضي بتوجيه الدّعوى إلى الأطراف المعنية بالنزاع. (القرار التعقيبي عدد 311713 الصادر بتاريخ 28 ماي 2011.)

فالقاضي الإداري يعتمد بالأساس على ما خوله له المشرع من دور استقصائي وتوجيهي للنزاع ليضطلع بدور إيجابي في تسيير إجراءات الخصومة المتسمة بعدم التوازن بين طرفيها، بصورة فتحت له مجالا واسعا لإستعمال تقنية تصحيح الإجراءات( عبد الرزاق بن خليفة، تصحيح إجراءات التقاضي أمام المحكمة الإدارية، القضاء الإداري بعد إصلاحات 3 جوان 1996 أعمال ملتقى نظمته الجمعية التونسية للعلوم الإدارية بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس يومي 12 و13 افريل 2001، ص 133) في غياب تنظيم تشريعي لهذه المسالة خلافا لما هو موجود بفرنسا Daniel Chabanel, la régularisation des requêtes devant la juridiction administrative, actualité juridique , droit administratif, mai 1993, pp ,331.)، لينتهي الى سد الفراغ التشريعي في مستوى إجراءات التحقيق كمبادرته بتحديد الجهة الإدارية المعنية بالنزاع (الحكم الابتدائي الصادر في القضية عدد 19340 /1 بتاريخ 2 ديسمبر 2011 :" حيث يجوز لقاضي تجاوز السلطة طبقا لما يتمتّع به من سلطات استقصائية واسعة ، تحديد الجهة المدعى عليها والتحقيق معها وهو ما تمّ توخّيه فعليّا أثناء التحقيق في القضيّة وذلك عبر إدخال وزير التربية ومطالبته بتقديم ملحوظاته بخصوص ما ورد بتقارير نائب المدّعي". ) أو مطالبتها بما يقتضيه سير التّحقيق من إجراءات ووثائق.

كما يبرز هذا الدور من خلال إجراءات التحقيق المتعلّقة بمطالبة الجهة الإدارية بالبيانات الواجب الإدلاء بها والرّدود والحجج الضرورية الّتي يقدر القاضي المقرّر أهميتها ومدى تأثيرها على وجه الفصل في الدّعوى، والّتي قد ينجرّ عن عدم الإستجابة لها القضاء وفقا لما احتواه الملّف من وثائق، وهو ما إنتهت المحكمة الإدارية إلى إقراره في مثل هذه الحالات حينما إعتبرت" أنّ إمساك الإدارة عن الإدلاء بملحوظاتها في الردّ على عريضة الدّعوى بعد التنبيه عليها بضرورة الجواب يعد إقرارا بموقف القائم بها من هذه الناحية، وأنّ عدم الإستجابة لإجراء التحقيق المطلوب يؤثّر حتما على وجه الفصل في القضية"، (يراجع الحكم الابتدائي عدد 17510/1 بتاريخ 21 ديسمبر 2009.) ويعدّ قرينة جدّية تؤكّد عدم شرعية القرار المطعون فيه. (الحكم الابتدائي عدد 17277/1 بتاريخ 26 أكتوبر 2009. "حيث اعتبرت المحكمة أن عدم رد الجهة الإدارية على عريضة الدعوى والمؤيدات المرفقة بها كإحجامها عن الإدلاء بما اقتضاه التحقيق يحول دون بسط المحكمة لرقابتها على عملها كما يمثل تسليما منها بصحة ما ورد بالدّعوى وقرينة جدية تؤكد عدم شرعية القرار المطعون فيه".)

هذه السلطات التي أقرّها القاضي الإداري وكرّسها على مستوى التّحقيق في الدّعوى يختلف نطاقها بحسب طبيعة المادّة المعروضة على أنظاره، فنجده متوسّعا متجاوزا لما تقدمّه الإدارة من ردود في حال عدم ترسّخ قناعته بجدّيتها ليأذن من تلقاء نفسه بكلّ الإجراءات التي يقدّر جدواها للفصل في الدّعوى.

ففي المادّة التأديبية مثلا إعتبر أنّ عبء الإثبات محمول على الإدارة المتحوزة بالقرارات الإدارية ومستنداتها من خلال مطالبتها بتقديم المؤيدات الضرورية وهو أمر لا يتعارض مع مبدأ السلطة التقديرية، طالما أنّ ذلك يندرج ضمن سلطات الرقابة القضائية التي تبسطها المحكمة على حقيقة ما دفعت به الإدارة، (الحكم الإستئنافي الصادر في القضية عدد 28508 بتاريخ 15 جويلية 2011 :" لا تكون العقوبة التأديبية شرعية إلا إذا ما ثبتت صحة الوقائع التي قامت عليها من خلال أوراق الملف أو تأيدت بفضل إجراءات التحقيق بالمحكمة الإدارية، والإثبات في المادة التأديبية محمول على الإدارة التي يخول لها الالتجاء إلى جميع وسائل الإثبات الممكنة والتي يرجع تقدير قوتها الإثباتية إلى المحكمة.") هذا التوجه كرسته المحكمة الإدارية في عديد القرارات حينما إعتبرت أنّ العقوبة التأديبية لا تكون شرعية إلاّ إذا ما ثبتت صحّة الوقائع التي قامت عليها من خلال أوراق الملّف أو تأيدت بفضل إجراءات التحقيق بالمحكمة، والتي يرجع لها تقدير قوتها الإثباتية فكلما لم تفلح الجهة الإداريّة في تقديم إثباتات من شأنها إرساء قناعة القاضي أو عجزت عن الإدلاء بنسخة من المؤيدات المؤسّسة لمؤاخذة العارض تأديبيّا، (الحكم الإستئنافي الصادر في القضية عدد 26486 بتاريخ 28 جانفي 2011 "حيث طالما عجزت جهة الإدارة عن الإدلاء بنسخة من التّعليمات العسكريّة المؤسّسة لمؤاخذة المستأنف ضدّه تأديبيّا، فإنّ ذلك يحول دون إجراء المحكمة لسلطتها على الوجه القانوني المطلوب، لا سيما وأنّ أداء المعني لصلاته جماعة داخل غرفته لا يمثّل مخالفة لأيّ قاعدة مكتوبة، بصرف النّظر عن أنّ التّكييف القانوني للأفعال لا يتطابق معها.") فإنّها تقضي بإلغاء القرار المطعون فيه.( الحكم الابتدائي الصادر في القضية عدد 16001 / 1 بتاريخ 24 أكتوبر 2007 والحكم الابتدائي الصادر في القضية عدد 15039 / 1 بتاريخ 17 نوفمبر 2007.)

كذلك في المادّة العمرانيّة وخاصّة فيما يتعلق بقرارات الهدم والّتي تقتضي قبل إصدارها إتباع جملة من الإجراءات الوجوبيّة من قبل الإدارة خلصت المحكمة إلى إعتبار أن "إحجام البلدية عن مدّ المحكمة بما يفيد استدعاء المدعي قبل إصدار قرار الهدم لسماعه في أجل أقصاه ثلاثة أيّام يجعل القرار المطعون فيه حريّا بالإلغاء." (الحكم الابتدائي الصادر في القضية عدد 120186 بتاريخ 15 جويلية 2011.)

هذا التمشي المتبني لسلطات واسعة للقاضي الإداري أثناء التحقيق في الدّعوى يبرز بأكثر وضوح في مستوى النزاعات الانتخابية من خلال مطالبة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بالإدلاء بجميع التقارير والأبحاث والمعاينات الّتي تمّ القيام بها في مراقبة تمويل الحملة الانتخابية حتى تتمكّن المحكمة من بسط رقابتها عليها والتثبت من صحّة النتيجة التي خلصت إليها هيئة الانتخابات. (قرار الجلسة العامّة القضائية بالمحكمة الإدارية عدد81 بتاريخ 8 نوفمبر 2011.)

أما بخصوص الإثبات في المادّة الجبائية فتسوسه قواعد محددة تفرضها الطبيعة المخصوصة للنزاع الجبائي وما يميّزه من طابع استقصائي وهي قواعد عمل القاضي على مراعاتها ضرورة أنّ عبء إثبات قاعدة الأداء يحمل على الإدارة باعتبارها تسعى إلى إثبات عدم صحّة تصريح المطالب بالضريبة لتحلّ محلّه حقيقة وعاء الضريبة المستوجبة، وأنّه متى تمّ استيفاء ذلك ينعكس عبء الإثبات ليصبح محمولا على المطالب بالضريبة الذي يتوجّب عليه عندئذ إثبات الشطط فيما وظّف عليه أو إقامة الدليل على موارده الحقيقيّة لينقلب بذلك العبء مجدّدا ويحمل على الإدارة ثانية كلّما أفلح هذا الأخير في التوصّل إلى تقديم ما يدعم وجاهة مزاعمه حول الشطط في التوظيف أو عدم أحقيّة مطالبته بأدائه. (القرار التعقيبي عدد 310167 المؤرخ في 18 جانفي 2010.)

بقى أنّ نشير في هذا المستوى إلى أنه في بعض الأحيان قد تمتنع الإدارة عن الإستجابة لطلب المحكمة عند مطالبتها ببعض الوثائق متعللة بالصبغة السريّة للوثائق المطلوبة، وهو ما لم تسايرها فيه المحكمة إذ اعتبرت" أنّه في صورة إرتكاز الدعوى على وقائع تحتّم مراعاة جانب الكتمان بشأنها وعدم إفشاء الأسرار المتعلقة بها فإن ذلك لا يقوم حجة كافية لحجبها عن القاضي". (الحكم الإبتدائي الصادر في القضية عدد 19014/1 بتاريخ 26 أفريل 2011:"استقر فقه قضاء هذه المحكمة على اعتبار أنه في صورة ارتكاز الدعوى على وقائع تحتم مراعاة جانب الكتمان بشأنها وعدم إفشاء أسرار لها علاقة بمصلحة الإدارة، فإن ذلك لا ينبغي أن يشكل عائقا في وجه المحكمة لممارسة وظيفتها وتكوين وجدانها وقناعتها بالاطلاع على الأسباب الكامنة وراء اتخاذ الإدارة للقرار المطعون فيه وإجراء رقابتها على مدى صحة مزاعمها وبالتالي على صحة الوقائع التي تأسس عليها القرار المنتقد.")

من الواضح أنّ القاضي الإداري لا يتردّد عن توجيه أوامر للإدارة أثناء سيّر التّحقيق في الدّعوى ومطالبتها بالإدلاء بكلّ الوثائق الضروريّة للفصل في القضيّة كلّما تعذر عليه البتّ فيها دون الإطّلاع على مؤيداتها الّتي عادّة ما تكون بحوزة الإدارة وإستخلاص النتائج منها، وهو توجّه ايجابي لما له من أهمية بالغة على حقوق المتقاضين وتأثيره على وجه الفصل في النزاع وتحديد مآله.

2- على مستوى مآل الحكم في الدّعوى:

إن المتابع لفقه قضاء المحكمة الإداريّة، لا يسعه سوى أنّ يتوقف على تحرر نسبي للقاضي الإداري من مبدأ عدم جواز توجيه أوامر للإدارة في بعض المجالات التي نوردها على سبيل الذكر والإستدلال.

إذ بالرجوع إلى بعض الأحكام الصادرة في مادّة الوظيفة العموميّة وخاصّة عند النظر في قرارات العزل فإنّ القاضي الإداري يذهب إلى اعتبار أنّ " الإدارة ملزمة في صورة صدور حكم نهائي بإلغاء قرارها القاضي بعزل أحد الأعوان العموميين أو التشطيب عليه بإعادة وضعيته الإدارية إلى ما كانت عليه قبل صدور القرار الذي تمّ إلغاؤه، و تتولّى إصلاح مساره المهني من الناحية القانونيّة، دون تمييز بين حالات الإلغاء التي تحصل من أجل عيب يندرج ضمن المشروعية الخارجية أو عيب يتعلّق بمشروعيته الداخلية بحيث تكون الإدارة والحالة تلك مجبرة بحكم القانون بتسوية الوضعية الإدارية للموظف بصفة رجعية من حيث تمكينه من التدرج و الترقيات وتصحيح مساره الوظيفي انطلاقا من تاريخ مفعول قرار العزل أو الشطب إلى تاريخ تسوية وضعيته القانونية." (الحكم الابتدائي عدد 15464/1 بتاريخ 8 جوان 2010. وكذلك الحكم الابتدائي عدد 19106/1 بتاريخ 27 أكتوبر 2010.)

كما دأب فقه القضاء الإداري في باب كفّ شغب الإدارة عن عقارات الأفراد على إعتبار أنّ اختصاص نظر القاضي الإداري لا يقف عند حدّ طلب تغريم الإدارة ماديا وأدبيا كلّما تبيّن له أنّ تدخّلها غير معتمد على النصوص القانونيّة المقرّرة لغاية تحقيق المصلحة العامّة، بل يتعدّاه ليشمل كذلك إلزامها بأن تقوم بالأعمال الضرورية قصد إرجاع الحالة إلى ما كانت عليه قبل قيامها بما هو معاب عليها وكفّ شغبها عن الملكية الفرديّة.( الحكم الإستئنافي الصادر في القضية عدد 28036 بتاريخ 14 جويلية 2012.)

أما في المادّة العقارية فقد اعتبرت المحكمة أنّ الأحكام الصادرة عنها والقاضية بالإلغاء تتعدّى أطراف المنازعة لتحرز حجيّة على الكافة، لذلك فإنّ احترام الإدارة للحجيّة المطلقة للشيء المقضي به يحتّم عليها استخلاص جميع النتائج القانونيّة المترتبة عن حكم الإلغاء الصادر لفائدة الجهة المدّعية والمتمثلة في إبطال العمل بالشهادتين الصادرتين في الصبغة الاشتراكية لعقار التداعي كإبطال جميع الأعمال الّتي استندت إليها وخلصت المحكمة إلى أنّ رفض تمكين المعنيين بالنزاع من الشهادة المطلوبة يعتبر مخالفا للحجيّة المطلقة للشيء المقضي به. (الحكم الابتدائي الصادر في القضية عدد 11585 / 1 بتاريخ 4 ماي 2007.)

هذا التوجه القضائي والمندرج في إطار توجيه أوامر للإدارة يبرز بأكثر تجلي في مادّة القضاء الاستعجالي الهادفة إلى اتخاذ جميع الوسائل الّتي من شأنها توفير الحماية الوقتيّة والمجدية للحقوق المتنازع في شأنها والحدّ تبعا لذلك من مفعول الزمن الذي قد يعكّر الوضعيات القانونيّة والواقعيّة بالزيادة في حجم المضرّة اللاحقة بها، لذلك فإن القاضي الإداري لا يتردد عن الاستجابة للطلب الرامي إلى إلزام الجهة الإدارية بتسليم منظوريها الوثائق المتعلقة بوضعيتهم الإدارية (القرار الصادر في القضية عدد 711388 بتاريخ 14 جويلية 2010) سواء تعلّق الأمر بطلب الحصول على ملفّ طبي ( القرار الصادر في القضية عدد 711513 بتاريخ 18 أفريل 2011 مطالبة المدعي بالملف الطبي لوالده يعتبر من قبيل الحقوق الأساسية للمستعملين للمرفق العام الصحي وللمرضى بوجه عام والتي يحق المطالبة بها إظهارا للحقوق وتحديدا للمسؤوليات وضمانا لجدوى التقاضي في هذا الخصوص وعلاوة على ذلك فإن طلب المدعي لا يفضي إلى تعطيل تنفيذ قرار إداري كما ليس من شأنه المساس بالأصل الأمر الذي يجعله مستوفيا للشروط المنصوص عليها بالفصل 81 من قانون المحكمة واتجه لذلك قبوله.) أو على ورقة امتحان ( يراجع القرار الصادر في القضيّة عدد 711950 بتاريخ 31 أوت 2012 والحكم الصادر في القضيّة عدد 711951 بتاريخ 10 أوت 2012 .يندرج الطلب الرامي إلى تمكين العارض من الاطلاع على ورقة الامتحان في إطار الضمانات الأساسيّة التي يجوز المطالبة بها في نطاق تجميع الحجج والمؤيّدات للوقوف على أسباب عدم النجاح والتأكّد من صحّة العدد المسند له وخلوّها من أيّ غلط في احتسابها أو في تضمينها بالكشوفات المعدّة للغرض توصّلا لإظهار الحقوق الناشئة عن مركزه القانوني وترجيح أنسب السبل القانونيّة لذلك على ضوء ما يبرز له من معطيات عند الإقتضاء.) أو وثيقة في بيان قيمة مبالغ المساهمات المقتطعة ( يراجع القرار الصادر في القضية عدد 711489بتاريخ 26 فيفري 2011 "طلب الحصول على وثيقة في بيان قيمة مبالغ المساهمات المقتطعة من مرتبات العارض وتحويلها بصورة فعلية إلى الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية يعد وسيلة وقتية مجدية وذات طابع متأكد باعتبارها تكفل للمعني بها إظهار حقوقه في الحصول على جراية التقاعد تتوافق مع ما تم اقتطاعه من مساهمات بعنوان التقاعد طيلة الفترة التي عمل فيها في خطة قيم بوزارة التربية) أو جميع الوثائق المكونة لملف الصفقة، (يراجع االقرار الصادر في القضية عدد 711595 بتاريخ 13 جويلية 2011:" من أوكد القواعد الواجب احترامها بمناسبة إبرام الصفقات العمومية هي شفافية الإجراءات والمساواة أمام الطلب العمومي وتكافؤ الفرص وضمان عدم المساس بقواعد المنافسة وفقا لمقتضيات الفصل 7 من الأمر عدد 3158 لسنة 2002 المؤرخ في 17 ديسمبر 2002 والمتعلق بتنظيم الصفقات العمومية، هو ما يخول لكل المشاركين في تلك الإجراءات حق الإطلاع على جميع مراحلها ووثائقها ما عدا ما نص القانون على اكتسائه صبغة سرية. طالما أن المطلب لا ينطوي على أي مساس بأصل الحق بما أن الهدف منه يكمن في الحصول على وثائق قصد إنارة الطالبة حول سلامة إجراءات إسناد الصفقة العمومية التي شاركت فيها دون الظفر بها، وهو ما من شأنه عند الاقتضاء أن يمكنها من اتخاذ الإجراءات الكفيلة بحماية حقوقها التي قد تصبح مهددة بالتلاشي إن صحت إحترازاتها وطالما أنه لا ينجر عن الاستجابة لهذا المطلب أي تعطيل لقرار إداري معين فإن المطلب يغدو مستوفيا لشروط قبول.) وصولا في بعض الحالات إلى توجيه أذون إلى الشركة التونسية للكهرباء والغاز بإتمام ما تبقى من أشغال تركيز الخطوط الكهربائية بالنظر إلى ما تقتضيه ضرورة إستمرارية المرافق العموميّة (القرار الصادر في القضية عدد 711651 بتاريخ 6 سبتمبر 2011.) أو كالإذن لوزير الداخلية بتسخير القوّة العامّة لتنفيذ الأحكام الصادرة عن السّلطة القضائيّة (القرار الصادر في القضية عدد 712060 بتاريخ 20 فيفري 2013 والقرار الصادر في القضية عدد 712221 بتاريخ 15 جويلية 2013.)

ليبقى الإذن القاضي بإلزام إدارة المستشفى بإجراء تحليل جيني على مولودين مشكوك في انتسابهما إلى والديهما أهم الحالات التي عرفها القضاء الإستعجالي نظرا لاتسامها بحالة من حالات التأكّد القصوى على معنى الفصل 81 من القانون المتعلّق بالمحكمة الإدارية هذا علاوة عن أنّ صدوره كان يوم الأحد وهو يوم راحة.( القرار عدد 711240 الصادر بتاريخ 10 ماي 2009 مع العلم وأنّ المؤسسة الصحيّة استجابت بطبيعة الحال إلى ما قضت به المحكمة الإدارية حال صدوره، فتم الإبقاء على الحالة كما كانت عليه، كما تمّ توجيه المعنيين بالأمر نحو المصلحة المؤهّلة للقيام بالتّحليل الجيني. كما أنّ نتيجة التّحليل بيّنت أنه لم يحصل أي خطإ في تسليم المولودين إلى أمّيهما وإنّما دفاتر المستشفى هي التي حصل بها خطأ ليس بالخطير في حدّ ذاته إنّما كاد أن يؤدّي إلى نتائج وخيمة لولا تدخّل القاضي الإداري الاستعجالي بسرعة وحزم جسّما ما يسمّى بالقضاء من ساعة إلى أخرى في أحسن صورة.)

أما في مادّة القضاء الكامل فقد إعتبر القاضي الإداري أن منع المحاكم من توجيه أوامر للإدارة إنّما هو موجه لمحاكم الحق العام ولا يشمل القضاء الإداري وأنّ الولاية المعقودة لفائدته في مادّة القضاء الكامل تفترض تمكينه من سلطات واسعة لإلزام الإدارة بإعادة الوضعيّة إلى الإطار الذي يتّفق مع القانون. ( الحكم الاستئنافي الصادر في القضية عدد 27230 بتاريخ 3 جوان 2011.)

وبخصوص الأضرار اللاحقة بالعقارات والناجمة عن الأشغال العموميّة يجوز التعويض العيني وذلك بالإذن بإعادة الحالة إلى ما كانت عليه موازنة بين المصلحة العامّة ومصلحة المتضرّر (الحكم الإستئنافي الصادر في القضية عدد 28302 بتاريخ 3 ماي 2012 "لئن كان المبدأ في كيفيّة التعويض عن المسؤولية الإدارية طبقا للفصل 17 من قانون المحكمة الإدارية هو التعويض الماليّ، فإنّه استثناءا لتلك القاعدة وفي خصوص الأضرار اللاحقة بالعقارات والناجمة عن الأشغال العمومية يجوز التعويض العيني وذلك بالإذن بإعادة الحالة إلى ما كانت عليه موازنة بين المصلحة العامة ومصلحة المتضرّر.") أو من خلال إلزام الجهة الإدارية المتسببة في المضرة برفعها متى لم يتعارض ذلك مع مقتضيات المصلحة العامّة الّتي تغلب على المصلحة الخاصّة ودون أن يؤدي الأمر إلى المساس بحرمة المنشآت العموميّة الّتي لا يجوز الإذن بإزالتها إلا ّفي حالات استثنائية ومخصوصة جدا وعند توفّر شروط معينة. ( الحكم الإبتدائي الصادر في القضية عدد 16873/1 بتاريخ 14 جويلية 2010.)

كذلك بالنسبة للدعاوى المتعلقة بالتفويت في الأراضي الدولية ذات الصبغة الفلاحية المسندة للأشخاص الطبيعيين، إعتبرت المحكمة أنّ الإدارة محمولة على إتمام التفويت المذكور وذلك بالمبادرة بإبرام عقود البيع النهائيّة لتلك العقارات بخصوص جميع الوضعيّات الّتي تثبت استجابتها لشروط التسوية. ( الحكم الابتدائي الصادر في القضيّة عدد 13802/1 بتاريخ 10 جويلية 2007.)

وعلى أساس أنّ سلطة الإدارة في البيع بالمراكنة لتسوية وضعية العقارات الدولية الفلاحية بالنسبة للمستغلين لها بصفة قانونيّة هي سلطة مقيّدة، فإن ذلك يبيح للقاضي الإداري في إطار القضاء الكامل توجيه الأوامر إلى الإدارة لمطالبتها بتسوية وضعية العقارات المستجيبة لشروط التسوية، من خلال إلزامها بإبرام عقود تكميلية ممّا لا يجوز معه التمسّك بعدم جواز توجيه أوامر للإدارة. ( الحكم الإستئنافي الصادر في القضية عدد 28621 بتاريخ 14 جويلية 2012 والحكم الإبتدائي الصادر في القضية عدد 120807 بتاريخ 31 ديسمبر 2012.)

ما من شك أنّ للقاضي الإداري دورا هاما في التخلّص من قيود مبدأ عدم جواز توجيه أوامر الى الإدارة، غير أنّ هذا الدور يبقى نسبيا ومحدودا لو لم يقع تدعيمه وتفعيله بآليات قانونيّة قادرة على إضفاء مزيد من النجاعة لضمان تنفيذ الأحكام القضائية.

المبحث الثاني: ضرورة تدعيم سلطات القاضي الإداري في توجيه أوامر إلى الإدارة

إنّ حصول المتقاضي على حكم نهائي وبات قابل للتنفيذ، قد لا يمكنه من الذهاب إلى أبعد من ذلك، (عياض بن عاشور، القضاء الإداري وفقه المرافعات الإدارية، مركز النشر الجامعي، الطبعة الثالثة، تونس، 2006. ص 255) لو تمّ التسليم بأن مهمة القاضي الإداري تنتهي عند حد التصريح بالحكم ولا تخوله سلطاته تنفيذ حكمه بما يجعلها محدودة النجاعة على هذا المستوى، وهو أمر لتجاوزه لابّد أوّلاً من التزام الإدارة بتنفيذ الأحكام القضائيّة (1) ثم ضرورة سن نصوص قانونيّة تدعم سلطات القاضي الإداري كضمانة للتنفيذ(2).

1-التزام الإدارة بتنفيذ الأحكام القضائية:

لئن يبدو اللجوء إلى القضاء الإداري سبيلا متيسرا أمام المتقاضي، فإن الجدوى الفعلية للمنازعة تكون على مستوى النتائج الواقعية، ضرورة أنّ المتقاضي ينظر إلى هذا السبيل "نظرة نفعية" (Rivero (J), Le système de protection des citoyens contre l’arbitraire administratif à l’épreuve des faits, Tome I, LGDJ, Paris, 1980, p. 557.) لا يهمه منطوق الحكم الصادر لفائدته بقدر ما تهمه نتائجه العمليّة على وضعيته القانونيّة، فالحكم الحائز على قوّة اتّصال القضاء وإن يعد وجها من أوجه الحماية القانونيّة، فإن الحماية الفعليّة لا تكتمل بمجرد صدوره بل تتطلب ترجمته عمليا من خلال تنفيذه.

إنّ إتخاذ الإدارة لموقف سلبي بشأن الأحكام القضائيّة الصادرة ضدها يثير التساؤل حول مدى إحترام القضاء كسّلطة مستقلة مضطلعة بوظيفة حسم المنازعات الإدارية، وما يقتضيه ذلك من ضرورة إلتزام الجهة المحكوم ضدها بالشيء المقضي به كمبدأ قانوني يستهدف بالأساس سيادة القانون.

فلئن كان القاضي الإداري لا يسمح بتجاوز حدود رقابته القضائيّة إلى حد حلوله محل الإدارة وتوجيه الأوامر إليها حفاظا منه على قاعدة أن القاضي الإداري يقضي ولا يدير،( الحكم الاستئنافي الصادر في القضية عدد 27926 بتاريخ 16 مارس 2011 "إن نظر المحكمة في طلب الإدارة المتعلق بالتصريح بالصبغة العمومية لعقار على ملك الخواص يكون مرادفا في الحقيقة والقصد لتحديده على نحو ما تقتضيه أحكام الأمر المذكور وهو ما لا يجوز لهذه المحكمة القيام به باعتبار أن ذلك سيؤول إلى حلولها محل الإدارة في القيام بإجراءات التحديد".) فإن ذلك ينطوي بالضرورة على تخلي معلن عن بعض سلطاته في مواجهة الإدارة الممتنعة عن التنفيذ.

ولعل السبب الرئيسي وراء تلكؤ الإدارة في التنفيذ يعود إلى غياب نص قانوني ضابط لمسألة تنفيذ الأحكام ضرورة أنّ مهمة القاضي الإداري في ظل القانون الحالي تنتهي بالفصل في الدّعوى، ولا يمكن أنّ تمتد إلى متابعة تنفيذ أحكامه، الّتي لا يوجد أيّ نص قانوني يستثني الإدارة من واجب تنفيذها.

فتعامل الإدارة مع الأحكام الصادرة بالإلغاء ينطوي على خرق واضح لحجيّة الأمر المقضي به المنصوص عليها بالفصلين 8 و 9 من القانون المتعلّق بالمحكمة الإدارية من خلال عدم التزامها بإعادة الوضعيّة القانونيّة الواقع تنقيحها أو حذفها بالمقرارات الإدارية الّتي تمّ إلغاؤها إلى حالتها الأصلية بصفة كلية خاصّة من طرف بعض الإدارات بعينها بتعلة وجود أسباب تتعلق بالأمن العام مثل وزارة الدّفاع الوطني أو وزارة الدّاخليّة، أو أنها تتذرع بعدم وجود الموارد الماليّة اللازمة لتعويض المحكوم له بالنسبة للأحكام الصادرة بالأداء.(لحكم الابتدائي الصادر في القضية عدد 15280 /1 بتاريخ 29 جوان 2007 "متى كان عدم التنفيذ المقصود للأحكام النهائية الصادرة عن هذه المحكمة من قبل الإدارة جزئيا أو كليا، موصوفا من المشرع بالخطأ الفاحش وسببا لإلغاء القرارات الإدارية المعتصمة به، دون التقيّد في خصوصها بآجال التقاضي، فإنّ من توابع ذلك أن لا تنتفع الإدارة بتحصين خطئها ذاك بفعل الزمن المسقِط لتنفيذية الأحكام عموما، خاصة وهي المستفيدة من غياب آليات التنفيذ الجبري عليها.")

وطالما أن المشرع اعتبر ضمن الفصل 10 من نفس القانون أنّ عدم التنفيذ المقصود لقرارات المحكمة الإدارية يعتبر خطأ فاحشا معمرا لذمة السلطة الإدارية، فان المتضرر من عدم التزام الإدارة بواجب التنفيذ يجد نفسه مضطرا مرة أخرى للعودة إلى القضاء للمطالبة بالتعويض، وهي آلية بقدر ما تؤخذ في سياقها فإن مواصلة العمل بها يكرس مدخلا للتفصي من واجب التنفيذ مقابل ترك باب النزاعات التعويضية مفتوحا.

ولعل من أهم مقومات المحاكمة العادلة التي أقرها الدستور ضمن الفصل 108 (عدد خاص للرائد الرسمي للجمهورية التونسية بتاريخ 10 فيفري 2014) هو الإلتزام بتنفيذ الأحكام القضائيّة مثلما أقرت ذلك محكمة العدل الأوروبية لحقوق الإنسان نظرا لأن الإخلال بهذا الواجب يمثل حدا من نجاعة القضاء الإداري (C.E.D.H 19 Mars 1997 AFFAIRE HORNSBY c. GRÈCE.AJDA p.3.).

ذلك أنه فيما عدا الأمر عدد 3698 لسنة 2008 المؤرخ في 2 ديسمبر 2008 المتعلّق بتنظيم الكتابة العامّة للمحكمة الإدارية الّذي اقتضى أن إدارة كتابة الدوائر الاستشارية مكلفة بإعداد ومتابعة ملفات تنفيذ أحكام وقرارات المحكمة الإدارية، (الرائد الرسمي للجمهورية التونسية عدد 99 لسنة 2008 بتاريخ 9 ديسمبر 2008، صفحة 4091.) والمنشور الصادر عن رئيس الحكومة بتاريخ 10 ماي 2012 الداعي كافة المصالح الإدارية إلى ضرورة تنفيذ الأحكام الصادرة ضد الإدارة، فإنه لا وجود لنص قانوني يلزم الإدارة بضرورة الانصياع للأحكام القضائيّة بالرغم من العناية المبذولة من الدائرة المتعهدة بالتقصي حول أسباب عدم التنفيذ والتوسط مع الإدارة، الّتي لم تؤدي في الأخير إلى نتائج فعلية وبقيت حبيسة الإحصائيات.

وبالتالي فإن الوضيعة الراهنة تقتضي تدخل المشرع بنصوص صريحة تمنح القضاء الإداري السلطات اللازمة لضمان تنفيذ أحكامه أسوة بالمشرع الفرنسي الذي منح للقاضي الإداري سلطة استخدام التهديد المالي في مواجهة الإدارة وسلطة إصدار أوامر إليها لتنفيذ أحكامه.

2- ضرورة التدخل التشريعي:

إن إشكالية تنفيذ الأحكام الصادرة ضد الإدارة لم تجد طريقها إلى الحل بالرغم من تزايد الإهتمام بها، طالما أنها بقيت رهينة السلطات الّتي من الضروري منحها للقاضي الإداري في مواجهة الإدارة الممتنعة عن التنفيذ.

فاليوم لا يوجد أيّ مبرر لتأخير تنزيل التنصيص الدستوري على واجب تنفيذ الأحكام على المستوى الواقعي وهو ما يستدعي تدخلا تشريعا في الإطار العام المتعلّق بإصدار مجلة القضاء الإداري ضمن قواعد قانونيّة واضحة وناجعة تكرس مبدأ إلزامية تنفيذ الأحكام وما يترتب على ذلك من نتائج قانونيّة.

فالقول بأن تنفيذ حكم الإلغاء شأنه شأن تنفيذ بقية الأحكام يجد سنده في المبادئ القانونيّة العامّة وعلى رأسها مبدأ سيادة القانون لا يستقيم في ظل المنظومة التشريعية الحالية، إذ أن تجسيد ذلك يقتضي تفعيل ما نص عليه الدستور التونسي في فصله 111 من أنه"يحجر الإمتناع عن تنفيذ الأحكام أو تعطيل تنفيذها."

ذلك أن مواجهة صعوبات التنفيذ يقتضي بالضرورة سن النصوص القانونيّة القادرة على منح القاضي الإداري الآليات الكفيلة بإجبار الإدارة على التنفيذ استئناسا بالتجارب المقارنة على غرار الغرامة التهديدية باعتبارها من الوسائل المهمة للضغط على الإدارة لإلزامها بتنفيذ أحكام القضاء، وذلك من خلال تحميل الإدارة عبء دفع خطية مالية يحددها القاضي الإداري ضمن منطوق الحكم تحتسب عن كلّ يوم تأخير في التنفيذ يقرها القاضي من تلقاء نفسه أو بناءا على طلب المتقاضي عند الاقتضاء.( عماد غابري " تنفيذ أحكام وقرارات القضاء الإداري في تونس، المفكرة القانونية، بتاريخ18/12/2018" تبعا لنقص الآليات المتاحة لتنفيذ الأحكام والقرارات القضائية، يجدر التفكير في آليات تؤول إلى فرض التنفيذ بقوّة التشريع من خلال مقترحات ستة: أن تتضمن الأحكام المتعلقة بالنظام الأساسي العام للوظيفة العمومية والأنظمة الأساسية الخاصة لبقية الأعوان العموميين تنصيصا صريحا على واجب تنفيذ الأحكام عموما، وأن الامتناع أو عرقلة تنفيذها يعدّ خطا تأديبيا جسيما موجبا للعزل. أن يقع تعديل أحكام المجلة الجزائية المتعلقة بعدم تنفيذ أحكام القضاء وإدراج أحكام خاصة تنسحب على الأعوان العموميين المعنيين بالتنفيذ والترفيع في العقوبات الخاصة بهذه الجريمة. أن يقع إحداث خطة قضائية صلب هيكل القضاء الإداري وهي "قاضي تنفيذ الأحكام" يعهد إليه تلقي تشكيات المتقاضين المتعلقة بعدم التنفيذ والنظر في آليات تنفيذ الأحكام والبت في الصعوبات المتعلقة بها. إحداث هيكل إداري خاص يجمع ممثلين عن مختلف القيادات الإدارية في جميع الوزارات ومن قضاة إداريين وممثلين عن المتقاضين لإبداء الرأي بخصوص آليات تنفيذ الأحكام إحداث مرصد لدى المجلس الأعلى للقضاء يعنى بتجميع الإحصائيات حول عدم تنفيذ الأحكام ويوفر قاعدة بيانات يمكن الرجوع إليها. أن يكون تنفيذ الأحكام وخاصة أحكام القضاء الإداري من جملة مقاييس تقييم العمل الحكومي للوزراء من قبل رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ومن مجلس النواب وسبيلا لإثارة المسؤولية السياسية للوزير.")

كلّ تلك النقائص والصعوبات المتعلّقة بعدم التنفيذ التي تعد موطن ضعف القضاء الإداري التونسي تجاوزها المشرع الفرنسي من خلال إصدار القانون المؤرّخ 16 جويلية1980 والّذي مكن القاضي الإداري من فرض غرامات تهديدية على الإدارة بصورة تعززت معها صلاحية القاضي الإداري في توجيه أوامر الى الإدارة من أجل إصدار القرارات اللازمة لتنفيذ أحكام القضاء. Loi n° 80-539 du 16 juillet 1980 relative aux astreintes prononcées) en matière administrative et à l'exécution des jugements par les personnes morales de droit public ; JORF 16 juillet 1980 P1799)

غير أنّ هذه السلطات لا يمكن أنّ تكون بصفة آلية إذ لابد أنّ تتسم بالتدرج بدءا بإشعار الإدارة المتمنعة عن التنفيذ بضرورة الإمثال لقوّة الشئ المقضي به كخطوة أوّلى ثم المرور إلى الضغط عليها بأسلوب الغرامات التهديدية.

وحتى تكون هذه الآلية القانونيّة ضمانة وناجعة لتنفيذ الحكم لابد أنّ تكون مقيدة بضوابط محددة من ذلك أن تفعيلها لا يكون إلاّ بعد صدور الأحكام، وأن يرفع من صدر له الحكم الطلب ويثبت أنّ الإدارة لم تقم بتنفيذه حتى تعطى لجهة الإدارة فرصة تدارك أمرها وأن لا يقدم الطلب إلاّ بعد مرور مدة زمنية معقولة من تاريخ تبليغ الجهة الإدارة بالحكم الصادر ضدها وعلى المحكمة الّتي تقضي بها أن تقوم بوقف احتسابها انطلاقا من تاريخ قيام الإدارة بتنفيذ الحكم، ويجب الوفاء بقيمة الغرامة خلال أجل معقول من تاريخ التبليغ مع إمكانية التمديد في حالة وجود صعوبات مالية.

يمكن القول أنّ فرض غرامات تهديدية على الإدارة الممتنعة عن التنفيذ يعد الخطوة الأنسب قصد تمكين القاضي الإداري من توجيه أوامر للإدارة في حالة إمتناعها عن تنفيذ الحكم الصادر ضدها، لكن البعض لا يعتبرها أفضل الحلول، ضرورة أن تجاوز مشكل عدم التنفيذ لا يكون إلا عبر إقرار المسؤولية الجزائية لمن تعمد عدم التنفيذ من مسؤولي الإدارة، إضافة إلى المناداة بضرورة اعتماد الحجز على الأموال الخاصّة للإدارة لضمان التنفيذ. (المادة 100 من الدستور المصري تنص صراحة على جريمة امتناع الموظف عن تنفيذ الأحكام "تصدر الأحكام وتنفذ باسم الشعب، وتكفل الدولة وسائل تنفيذها على النحو الذي ينظمه القانون. ويكون الامتناع عن تنفيذها أو تعطيل تنفيذها من جانب الموظفين العموميين المختصين، جريمة يعاقب عليها القانون، وللمحكوم له في هذه الحالة حق رفع الدعوى الجنائية مباشرة إلى المحكمة المختصة. وعلى النيابة العامة بناءً على طلب المحكوم له تحريك الدعوى الجنائية ضد الموظف الممتنع عن تنفيذ الحكم أو المتسبب في تعطيله." المادة (123) من قانون العقوبات المصري تنص على أن " يعاقب بالحبس والعزل كل موظف عمومي استعمل سلطة وظيفته في وقف تنفيذ الأوامر الصادرة من الحكومة أو أحكام القوانين واللوائح أو تأخير تحصيل الأموال والرسوم، أو وقف تنفيذ حكم أو أمر صادر من المحكمة أو من أي جهة مختصة. كذلك يعاقب بالحبس كل موظف عمومي امتنع عمدا عن تنفيذ حكم أو أمر مما ذكر بعد مضي ثمانية أيام منذ إنذاره على يد محضر إذا كان تنفيذ الحكم أو الأمر داخلا في اختصاص الموظف".)

إن نجاعة القضاء تقاس في أغلب الأنظمة بمدى التزام السّلطة التنفيذية بتنفيذ الأحكام وترجمتها على أرض الواقع من خلال إنصاف المتقاضين وإرجاع الحقوق إلى أصحابها بصفة فعلية، ولإدراك هذه الغاية لابد أولا من مراجعة المنظومة القانونيّة عبر إقرار إصلاحات تشريعية تقطع مع المبادئ التقليدية وإرساء آليات قانونية تمنح القاضي الإداري سلطات واسعة من شأنها جبر الإدارة على التقيد بواجب التنفيذ خاصّة في ظل ما أبداه هذا الأخير من جرأة في مستوى بعض أحكام.