بقلم عبد الحكيم بن هبري

العدالة البديلة التفاوضية -جواب فكر ما بعد الحداثة لأزمة العدالة: "الوساطة الجزائية كآلية مستحدثة لحماية الأحداث الجانحين وفقا للقانون 15-02 أنموذجا"

مصباح مضيء

عبد الحكيم بن هبري: قاضي، نائب رئيس محكمة ايليزي وباحث في القانون في طور الدكتوراه بكلية الحقوق، جامعة الجزائر

مـقـدمـة


إن مشكلة الطفل الجانح تعتبر من أهم وأعقد المشكلات التي تواجهها البيئة الاجتماعية وذلك لما تكتنفه من أخطار وانعكاسات على مستقبلها، فمظاهر جنوح الأطفال تتعلق أساسا بصغار السن، فهم عماد المستقبل وأمل المجتمع وجنوحهم ضرر على أنفسهم وعلى مجتمعهم، لذا أولى المشرع الجزائري اهتماما كبيرا لفئة الطفولة، وذلك بوضع قواعد و آليات خاصة تهدف أساسا لحماية الطفل.

فالقول بإمكانية ارتكاب الطفل لفعل إجرامي لا يعني إهدار هذه الحماية، بل حتى في حالة كونه جانحا توفر له جميع الضمانات التي تسمح بإعادة دمجه في المجتمع.
ونتيجة لثبوت فشل العقوبة في القضاء على جنوح الأطفال و التصدي لجرائم هذه الفئة الخاصة، عمدت الدولة إلى تتبنى أنماطا جديدة في الضبط الاجتماعي للخلافات عل و عسى تسهم في الحد من جنوح الأطفال إلى حد ما، وتوفير أكبر قدر من الحماية لهم، فتم الانتقال من القانون المفروض إلى القانون المتفاوض عليه، والطرق البديلة لتسوية النزاعات والتي تقوم على فكرة (العدالة التفاوضية)، وهو ما انبثق عن القانون 15/12 المتعلق بحماية الطفل الذي جاء به المشرع الجزائري حيث استحدث هذا الأخير آلية جديدة تحت اسم الوساطة الجزائية، أي انضمام الأطراف لإيجاد حل توافقي، وهو ما يعتبر أحسن جواب لفكر ما بعد الحداثة لأزمة عدالة دولة الحداثة.
ومن أجل دراسة والوقوف علة كل أبعاد الموضوع ارتأينا ضرورة التعرض إلى: مفهوم الوساطة الجزائية والأحكام المتعلقة بها في ظل القانون 15/12(المبحث الأول)، ثم التعرف على جل مزايا وعيوب الوساطة الجزائية وآثارها على الدعوى العمومية من خلال (المبحث الثاني).



المبحث الأول: مفهوم الوساطة الجزائية والأحكام المتعلقة بها في ظل القانون 15/12

من أجل تحقيق التوازن بين مصلحة الطفل الجانح ومصلحة الضحية برزت أهمية فتح قناة تواصلية بين المجرم والضحية عبر توسيع هامش العدالة التصالحية والاهتمام بضحايا الفعل الجرمي، ويتم ذلك بتدخل الدولة كطرف ثالث لتتنازل بدورها عن إنزال العقاب بالجاني متى ارتضت ووافقت على العقد ألتصالحي بين الضحية والمجرم . و يتم ذلك عن طريق ما يعرف بالوساطة الجزائية، وقد أدرجها المشرع في المواد الجزائية لأول مرة في القانون رقم15-12 المتعلق بحماية الطفولة (المواد من 110 إلى115) وقد خصصها للأحداث ضمن هذا القانون، أما إجراءات الوساطة فيما يخص البالغين فقد تضمنها قانون الإجراءات الجزائية إثر تعديله بموجب الأمر رقم 15-02 (مواد من37مكرر إلى37مكرر9).
وكما سبق القول فالوساطة الجزائية تهدف لإنهاء المتابعة وتحقيق الأغراض الحديثة للعقاب وهو ما سيتم التطرق إليه في المطلبين التاليين:


المطلب الأول: تعريف الوساطة الجزائية


من أجل الوصول على تعريف كافي ووافي للوساطة الجزائية لابد من التطرق إلى التعريف القانوني لها (الفرع الأول)، ثم تعريفها من الجانب الفقهي القانوني (الفرع الثاني)، وذلك على النحو التالي:


الفرع الأول- التعريف القانوني للوساطة الجزائية:

عرف المشرع الجزائري الوساطة الجزائية في المادة02 من القانون رقم15/12 المتعلق بحماية الطفل بأنها:"آلية قانونية تهدف إلى إبرام اتفاق بين الطفل الجانح وممثله الشرعي من جهة، وبين الضحية أو ذوي حقوقها من جهة أخرى، وتهدف إلى إنهاء المتابعات وجبر الضرر الذي تعرضت له الضحية ووضع حد لآثار الجريمة والمساهمة في إعادة إدماج الطفل"، ويستشف من هذه المادة غاية المشرع الجزائري من تبني آلية الوساطة و المتمثلة في وضع حد للمتابعات الجزائية ضد الحدث الجانح دون إضرار بمصالح الضحية وذوي حقوقه .


الفرع الثاني- التعريف الفقهي للوساطة الجزائية:

لا يوجد تعريف فقهي جامع مانع للوساطة الجزائية، فقد اختلف الفقهاء القانونيين في تعريفها فهناك من عرفها على أنها:" نظام يستهدف الوصول إلى اتفاق أو مصالحة أو توفيق بين أشخاص أو أطراف ويستلزم تدخل شخص أو أكثر لحل المنازعات بالطرق الودية "
كما يعرفها آخرون على أنها: " إجراء يحاول فيه شخص محايد من الغير تقريب وجهات النظر لأطراف نزاع للوصول إلى حل لهذا النزاع الذي يختلفون حوله "
ما يلاحظ في الأخير أنه ورغم هذه الاختلافات بين الفقهاء في تحديد تعريف للوساطة الجزائية غير أن كل تعريفاتهم تدور حول معنى واحد هو التقريب بين وجهات نظر الأطراف للوصول إلى حل مناسب للنزاع و تحديد تعويض للضحية تجسيدا لما يسمى بالعدالة التفاوضية .


المطلب الثاني: الأحكام المتعلقة بالوساطة الجزائية للأحداث الجانحين


نتناول في هذا المطلب أطراف الوساطة الجزائية وأهدافها في (الفرع الأول)، لنصل في الأخير إلى تحديد نطاق الوساطة الجزائية ومختلف إجراءاتها (الفرع الثاني):


الفرع الأول: أطراف الوساطة الجزائية وأهدافها


أولا-أطراف الوساطة الجزائية:

بالرجوع إلى المادتين 2 و111 من القانون 15/12 تتم عملية الوساطة بحضور ثلاثة أطراف وهم الطفل الجانح وممثله الشرعي،والضحية أو ذوي حقوقها ،ويقوم بدور الوسيط وكيل الجمهورية أو يكلف بذلك احد مساعديه أو احد ضباط الشرطة القضائية، كما أجاز القانون استعانة طرفي النزاع بمحاميهما أثناء إجراء الوساطة (المادة37 مكرر1 من قانون الإجراءات الجزائية المعدل والمتمم).


أ- الطفل الجانح وممثله الشرعي:

ونقصد بالطفل هنا حسب المادة 2 من قانون حماية الطفل هو مرتكب الجريمة سواء كان فاعلا أصليا أو شريكا، على أن إجراء الوساطة يرتبط بضرورة موافقة الطفل الجانح و ممثله الشرعي على اللجوء لهذا الإجراء، وذلك لكون أن سن الرشد الجنائي 18 سنة فالطفل الجانح هو الذي يكون سنه بين 10 و18 سنة ، ونظرا لصغر سنه فالمشرع الجزائري اشترط حضور ممثله الشرعي بنصه الطفل الجانح و ممثله الشرعي وإجراء الوساطة يشترط رضاء كل منهما ، وهذا يعتبر من بين ضمانات حماية الطفل الجانح نظرا لنقص تمييزه وإدراكه .
و قد ذهب جانب من الفقه إلى أنه من الضروري اعتراف الجاني بارتكابه الجريمة للتوصل سريعا إلى حل للنزاع، كما لا يجوز اتخاذ اعترافات الجاني في مجلس الوساطة كدليل على ارتكابه الجريمة إذا فشلت الوساطة ورفعت الدعوى أمام المحكمة فيما بعد،وهذا ما أوصت به ندوة طوكيو المنعقدة باليابان من 14الى16 مارس1983 .


ب- الضحية أو ذوي حقوقها:

الضحية هو كل من وقع الاعتداء عليه أو على حق من حقوقه من طرف الطفل الجانح سواء كان شخصا طبيعيا أو معنويا.
و بالرجوع إلى قانون العقوبات الفرنسي نجد انه عرف الضحية على أنها:" كل شخص تعرض إلى ضرر أو هي كل شخص تحمل ضررا ناجما عن جريمة "
" Ayant personnellement souffert du dommage causé par l'infraction."
وقد اشترط المشرع حضوره أو حضور ذوي حقوقه في حالة غيابه .


ج- الوسيط:

هو الطرف الثالث في عملية الوساطة وهو يلعب دورا مهما في مدى نجاحها، حيث أنه يدير النقاش مابين الجاني والمجني عليه ويحاول تقريب وجهات النظر بينهما للوصول إلى حل يرضيان به وينهي النزاع القائم بينهما، وبالرجوع إلى المادة 111 من قانون حماية الطفل السابق ذكرها، نجد أنها حددت الأطراف الذين يمكنهم القيام بدور الوسيط في الوساطة الجزائية للطفل الجانح على وجه التحديد، وهم:


1-وكيل الجمهورية أو وكيل الجمهورية المساعد: يقوم وكيل الجمهورية المختص بالنزاع بإجراء الوساطة بنفسه ،كما يجوز له أن يكلف احد مساعديه للقيام بهذه المهمة، وهو ما نصت عليه المادة 36 من القانون 15/02 المعدل لقانون الإجراءات الجزائية حيث قضت في الفقرة 05 منها أن من صلاحيات وكيل الجمهورية أنه يمكنه أن يقرر إجراء الوساطة الجزائية، والتي يقوم بها بنفسه أو يسند مهمة القيام بها لأحد مساعديه.
نلاحظ هنا أن المشرع الجزائري أجاز لوكيل الجمهورية بأن يكلّف أحد مساعديه أو أحد ضباط الشرطة القضائية للقيام بالوساطة وهذا خلافا لنظام الوساطة الجزائية بالنسبة للجرائم التي يرتكبها البالغين والتي عهد بصلاحية إجرائها للنيابة العامة وحدها فقط.


2- ضباط الشرطة القضائية: يمكن لضباط الشرطة القضائية القيام بمهمة الوسيط بين طرفي النزاع بناء على تكليف من السيد وكيل الجمهورية المختص محليا وإقليميا بالنظر في النزاع، حسب مقتضيات المادة 111 من القانون 15/12 المتعلق بحماية الطفل.
وتجدر الإشارة أن لا وكيل الجمهورية و لا ضباط الشرطة القضائية يملكان سلطة فرض حل معين على طرفي النزاع ، إذا تمت الوساطة من قبل ضابط الشرطة القضائية فإنه يتعين عليه أن يرفع محضر الوساطة إلى وكيل الجمهورية لاعتماده بالتأشير عليه .
وفي جميع الحالات يحرر محضر باتفاق الوساطة يوقع عليه الوسيط وبقية الأطراف وتسلم نسخة منه لكل طرف .


ثانيا: أهداف الوساطة الجزائية


أ- وضع حد لآثار الجريمة:

أجاز المشرع الجزائري لوكيل الجمهورية اللجوء إلى إجراء الوساطة الجزائية إذا كان من شانها إنهاء الاضطراب الذي أحدثته الجريمة في المجتمع ووضع حد لآثارها(المادة37مكرر من قانون الإجراءات الجزائية المعدل والمتمم والمادة 02من قانون حماية الطفل)،ويتحدد مدى الإخلال والاضطراب الناتج عن الجريمة بمدى جسامة وخطورة السلوك الإجرامي ومساسه بالنظام العام ولذلك لا يجوز اللجوء إلى الوساطة الجزائية إلا إذا كان الاضطراب الناتج عن الجريمة قابلا للتوقف.

ب- جبر الضرر المترتب عن الجريمة:

الوساطة باعتبارها آلية قانونية تنهي المتابعة الجزائية بما يراعي ويجسد التوجهات الجديدة للسياسة الجنائية الحديثة التي أصبحت تركز على العلاقات الإنسانية الاجتماعية بدل القانونية في إطار ما يسمى بالعدالة التصالحية la justice réparatrice، لا يعني إغفال الضحية وحقوقه، فالضحية هو طرف في عملية العدالة ومع تطور السياسة الجنائية أصبح طرف رئيسي يجب الاهتمام به وإعطاءه دور فعال بل العكس من ذلك تماما لأن من أغراضها جبر ضرره حيث يقوم الطفل الجانح بمحاولة الوصول إلى اتفاق مع الضحية يتضمن إصلاح ضرره سواء كان هذا الإصلاح عيني أو نقدي لأن المشرع لم يحدد ما يتعين على الأطراف الوصول إليه من خلال الاتفاق- بخلاف قانون الإجراءات الجزائية الذي نص في المادة 37 مكرر 4 على أن يتضمن اتفاق الوساطة إعادة الحال إلى ما كانت عليه ، تعويض مالي أو عيني عن الضرر ، كل اتفاق آخر غير مخالف للقانون يتوصل إليه الأطراف-إنما يبقى ذلك خاضع لإرادتهم فقد يكتفي الضحية باعتذار الطفل الجانح كما قد يطالبه بتعويض ما لحقه من ضرر وبالتالي يكون هذا سبب لانقضاء كل من الدعوى العمومية وأيضا المدنية بطريقة ودية بعيدا عن المحاكمة الجنائية وما قد يترتب عنها من آثار سلبية تمس الجاني وتهمش الضحية .

ج- إعادة إدماج الطفل الجانح:

يمكن القول أن الهدف الرئيسي من الوساطة هو إعادة إدماج الطفل الجانح ويكون ذلك عن طريق إعادة إصلاح وتأهيل الطفل كي يعود فردا صالحا داخل المجتمع، وهو من أهم أغراض إجراء الوساطة الذي اغفل المشرع الجزائري ذكره في قانون حماية الطفل في حالة جنوح الأحداث حيث جاء في المادة 114 من القانون رقم 15/12 المتعلق بحماية الطفل على أنه:"يمكن أن يتضمن محضر الوساطة تعهد الطفل تحت ضمان ممثله الشرعي بتنفيذ التزام واحد أو أكثر من الالتزامات الآتية:
-إجراء مراقبة طبية أو الخضوع لعلاج.
-متابعة الدراسة أو تكوين متخصص.
-عدم الاتصال بأي شخص قد يسهل عودة الطفل للإجرام(المادة 114 من قانون حماية الطفل).
يسهر وكيل الجمهورية على تنفيذ الطفل لهذه الالتزامات.
وعليه فإن الوساطة لا تعنى بتعويض المضرور فقط و إنهاء آثار الجريمة بل تتعدى ذلك إلى إمكانية إلزام الحدث على التعهد على القيام بالتزامات معينة تصب في مجملها في مصلحته حسب رأينا.


الفرع الثاني: شروط الوساطة الجزائية و إجراءاتها


أولا- شروط الوساطة الجزائية:

من حق الطفل الجانح أن يطلب من وكيل الجمهورية القيام بالوساطة متى توفر عنصر الرضا لكن تطبيقها يتطلب توافر جملة من الشروط:


أ- ملائمة النيابة العامة لإجراء الوساطة: لوكيل الجمهورية مطلق الحرية في تقرير اللجوء إلى إجراء الوساطة بين الضحية والطفل وهو ما أشارت إليه المادة 110 من قانون حماية الطفل، فاللجوء إلى الوساطة هو أمر جوازي لوكيل الجمهورية فلا يجوز لأطراف النزاع إجبار النيابة على إجراء الوساطة وإن كان يجوز لهم تقديم طلب إجراء الوساطة إلى وكيل الجمهورية الذي لديه صلاحية قبول أو رفض هذا الطلب(المادة111من قانون حماية الطفل)

ب- موافقة أطراف النزاع:

رغم أن نص المادة 111 من قانون حماية الطفل لا يشترط صراحة حصول وكيل الجمهورية على موافقة طرفي النزاع ،حيث تنص على أن يستطلع وكيل الجمهورية فقط رأيي كل من الطفل وممثله الشرعي والضحية أو ذوي حقوقها قبل البدء في إجراءات الوساطة

ج- الشروط المتعلقة بالجريمة:

أجاز المشرع الجزائري بموجب المادة 110 من القانون 15/12 اللجوء إلى الوساطة في كل وقت من تاريخ ارتكاب المخالفة أو الجنحة، وقام باستبعاد إجراء الوساطة من الجنايات بخلاف ما هو معمول به في قانون الإجراءات الجزائية، إذ تم حصر الجنح التي يجوز فيها اللجوء إلى الوساطة في المادة 37 مكرر2 8، ومنه نقول أن المخالفات نظرا لبساطتها وإمكانية تحقيق الوساطة للأغراض التي وجدت من أجلها فقد أجازها المشرع لكل من البالغين والأحداث .
أما الجنح فقد تم حصرها فيما يخص البالغين بخلاف الأحداث فكلما ارتكب الطفل الجانح لجنحة مهما كان نوعها يجوز إجراء الوساطة فيها .
أما الجنايات وهي الجرائم الخطيرة فلم يجز المشرع الجزائري إجراء الوساطة فيها سواء بالنسبة للبالغين أو الأحداث، وهذا راجع لشدة خطورتها وعدم إمكانية الطفل الجانح جبر الضرر المترتب عنها وإرضاءه الضحية، كما أن الجنايات تعبر عن خطورة فاعلها فمن غير الممكن تركه حرا في المجتمع .
وبالتالي أول ما يتأكد منه وكيل الجمهورية القائم بعملية الوساطة هو تحقق الجريمة واكتمال عناصرها بحسب التكييف الذي يلحقه بالفعل الإجرامي فإن بدا له أن الفعل يشكل مخالفة أو جنحة قام بإجراء الوساطة سواء بعرضها أو بقبولها من طرف الطفل الجانح وممثله الشرعي ، أما إن تبين له أن الفعل يشكل جناية فإنه يباشر متابعة الطفل الجانح وفقا للقواعد المنصوص عليها قانونا.


د- الشروط المتعلقة بالمجرم:

نص المشرع الجزائري على إجراء الوساطة فيما يخص البالغين في قانون الإجراءات الجزائية بينما نص عليها فيما يخص الأحداث في قانون حماية الطفل القانون 15/12 وقام بتعريف الطفل الجانح في المادة 2 وهو كل من لا يقل عمره عن 10 سنوات لأن الطفل أقل من 10 سنوات عديم التمييز كما اشترط المشرع لإجراء الوساطة حضور الممثل الشرعي للطفل الجانح وقبوله بهذا الإجراء .
قد يقوم الطفل الجانح وممثله الشرعي بطلب إجراء الوساطة وهنا يبدو واضحا رضاؤه ورغبته في الإجراء في حين إن لم يقم بطلبها فلا يمكن إجباره على قبولها فقد يختار الطريق العادي للمحاكمة ويرفض الوساطة لاسيما وإن كان يرى نفسه بريئا وأن الوساطة بمثابة اعترافه بالذنب، في هذه الحالة بالذات يقوم وكيل الجمهورية باستطلاع رأيه ورأي ممثله الشرعي قبل اتخاذ أي إجراء وإلا اعتبر إجراءه للوساطة باطلا لأنه لم يستوفي الشروط القانونية المتعلقة بقبول الطفل الجانح وممثله الشرعي .
من جهة أخرى اشترط القانون حضور المحامي في إجراء الوساطة وإن كان المشرع بالاطلاع على المواد الخاصة بالوساطة من القانون 15/12 لم ينص على وجوبية المحامي في الحضور باستثناء ما نص عليه في المادة 111 على أن تتم الوساطة بطلب من الطفل أو ممثله الشرعي أو محاميه، لكن بالرجوع إلى المادة 67 من نفس القانون نجدها تنص على أن حضور محام لمساعدة الطفل وجوبي في جميع مراحل المتابعة والتحقيق والمحاكمة، وبما أن آلية الوساطة تتم في مرحلة المتابعة لتكون كبديل عنها فيمكن القول أن حضور المحامي وجوبي .
كما يجب أن تتم الوساطة قبل تحريك الدعوى العمومية، وأن يكون الاتفاق المتمخض عن الوساطة مكتوبا .


ثانيا-إجراءات الوساطة الجزائية المقررة للحدث الجانح:

لم يحدد المشرع الجزائري إجراءات معينة يجب إتباعها أثناء القيام بالوساطة الجزائية بين الضحية والطفل الجانح وممثله الشرعي، فلا توجد أية قواعد تنظيمية تبين كيفية ممارسة الوساطة فهي ممارسة حرة من طرف الوسيط، وهذا عن طريق الاجتماع بطرفي النزاع سواء على حدى أو مجتمعين إلى غاية الاتفاق على حل يرضيهم، غير أنه يمكن تلخيص مجمل الإجراءات المتبعة فيما يلي:


أ: طلب إجراء الوساطة:

الأصل أن طلب إجراء الوساطة الجزائية في جرائم الأطفال يتم من طرف الطفل الضحية - و هو الذي ألحقت به الجريمة ضررا مباشرا - أو ممثله الشرعي أو محاميه أو تلقائيا من وكيل الجمهورية، و الملاحظ هنا أن المشرع الجزائري راعي مصلحة الطفل.
و في الحالة التي يقرر فيها وكيل الجمهورية اللجوء إلى إجراء الوساطة، يستدعي الطفل و ممثله الشرعي و الضحية أو ذوي حقوقهما و يستطلع رأي كل منهم، و هذا حسب ما نصت عليه المادة 111 في فقرتها الثالثة من القانون رقم 15- 12 و المتعلق بحماية الطفل،وتجدر الإشارة هنا إلى أن حضور المحامي في إجراءات الوساطة وجوبي لمساعدة الطفل (المادة 67 من قانون حماية الطفل)، وجوازي بالنسبة للضحية أو ذوي حقوقها (المادة 37مكرر01 من قانون الإجراءات الجزائية المعدل والمتمم).
و في رأينا المتواضع كان من المستحسن لو أن المشرع الجزائري أجاز لوكيل الجمهورية استدعاء الممثل الشرعي للضحية و ليس أن يخيّر و كيل الجمهورية سواء باستدعاء الضحية أو ذوي حقوقها، ففي حين كون الهدف من القول الطفل أو ممثله الشرعي يعود لكون الطفل يمكن أن لا يكون أقدر على معرفة ما إذا كان إجراء الوساطة جيد له من عدمه على عكس الممثل الشرعي الذي يكون قادرا على تمييز ما هو الأفضل للضحية إن كان هو كذلك طفل.
و في هذه المرحلة يقوم وكيل الجمهورية بتكليف طرفي النزاع بالحضور لإعلامهم بأن نزاعهم سوف يتم تسويته وديا عن طريق الوساطة، و يتعين على وكيل الجمهورية أن يحدّد لكل طرف من أطراف النزاع موعد لمقابلته على حدة قبل لقائهما معا ، و يتعيّن على وكيل الجمهورية أن يلتزم جانب الحياد في لقائه مع كل طرف سواء تعلّق ذلك بمدة اللقاء أو مكانه.
كما يقوم بتعريف طرفي النزاع بحقوقهم كحقهم في الاستعانة بمحام إذ يجوز للمحامين و تلبية لطلب أحد أطراف النزاع أن يحضر اللقاء الأولي بين الوسيط و الطرف الذي استدعاه، و ذلك للإطلاع على ملف النزاع و دراسة الطرف الآخر و تقديم الاستشارة القانونية لمن استدعاه ، كما يعدهم بعدم السير في إجراءات الدعوى في حالة نجاح الوساطة الجزائية و إتباع توجهاته، فضلا عن ذلك فإنه يقوم بالحصول على موافقة كتابية من طرفي النزاع قبل المضي قدما في إجراءات الوساطة الجزائية، و في حالة امتناع أحد طرفي النزاع فعلى وكيل الجمهورية أن يتولى بنفسه التصرف في الدعوى الجزائية .

ب- مرحلة الاجتماع بأطراف الوساطة الجزائية:

بعد انتهاء وكيل الجمهورية من سماع أطراف النزاع كل على حدة، يحدّد و بالاتفاق مع طرفي النزاع موعدا لاجتماع مجلس الوساطة، و فيه يلتقي أطراف النزاع وجها لوجه و في بداية هذا الاجتماع يعرض وكيل الجمهورية أهداف الوساطة و الغرض منها، ثم يسمح للطفل الضحية أو ممثله الشرعي بعرض شكواه و طلباته أمام الطفل الجانح، و بعدها يفسح المجال لهذا الأخير أو ممثله الشرعي لعرض وجهة نظره، و من خلال تبادل الآراء يستطيع وكيل الجمهورية التوفيق بينهما .
و يناط بوكيل الجمهورية في هذه المرحلة مهمة تنظيم إدارة مجلس الوساطة الجزائية و ذلك بتنظيم تبادل الأدوار بين طرفي النزاع، و تهدئته لحدّة النقاش المحتدم بين طرفي النزاع، مذكر إياهم بالنقاط التي تم الاتفاق عليها أثناء اللقاءات الفردية، حتى يتوصل إلى نقاط الالتقاء و التوافق بينهما، حتى يمكن من خلالها بلورة مشروع اتفاق أولي يرضي به أطراف النزاع .


ت- مرحلة الاتفاق: تنتهي الوساطة إما بصورة عادية، و هي نجاح وكيل الجمهورية في الوصول بطرفي النزاع إلى تسوية مرضية للنزاع، فهنا تدخل الوساطة الجزائية مرحلتها الحاسمة و هو ما يعبّر عنه بمرحلة اتفاق الوساطة الجزائية ، و فيها يتم تحديد التزامات كل طرف اتجاه الآخر من أجل إنهاء النزاع، و لا يشترط شكلا معينا لإبرام اتفاق الوساطة الجزائية، غير ما نص عليه المشرع الجزائري، و هو أن يدون اتفاق الوساطة في محضر يتضمن هوية و عنوان الأطراف و عرضا وجيزا للأفعال و تاريخ و مكان وقوعها و مضمون الوساطة و آجال تنفيذه المادة37مكرر03من قانون الإجراءات الجزائية المعدل والمتمم ، كما يشترط توقيع المحضر من طرف وكيل الجمهورية و أمين الضبط و الأطراف و تسليم نسخة منه لكل طرف.


* يعطى أجل محدد للطفل لتنفيذ التزاماته في اتفاق الوساطة ويسهر وكيل الجمهورية على مراقبة تنفيذها في الآجال المحددة(المادة114 من قانون حماية الطفل).
* يعتبر محضر الوساطة الذي يتضمن تقديم تعويض للضحية أو ذوي حقوقها سندا تنفيذيا طبقا لأحكام قانون الإجراءات المدنية والإدارية ويمهر بالصيغة التنفيذية(المادة113 من قانون حماية الطفل)، ولا يكون قابلا للطعن فيه بأي طريق من طرق الطعن(المادة37مكرر05 من قانون الإجراءات الجزائية المعدل والمتمم) .
*وفي حالة عدم تنفيذ اتفاق الوساطة يبادر السيد وكيل الجمهورية بمتابعة الطفل ، ويتعرض لعقوبة جرم التقليل من شأن الأحكام القضائية(147الفقرة 2 قانون العقوبات) .

ث- مرحلة تنفيذ اتفاق الوساطة الجزائية: بعد انتهاء وكيل الجمهورية من إبرام اتفاق الوساطة الذي ينهي النزاع بين الطفل الجانح و الطفل الضحية، يبقى على عاتقه واجب الإشراف على تنفيذ ذلك الاتفاق، ذلك أن مهمة وكيل الجمهورية لا تنتهي إلا بتنفيذ اتفاق الوساطة، و يتوجّب على وكيل الجمهورية حفظ الدعوى الجزائية و عدم تحريكها.
تجدر الإشارة هنا أن القانون لم يبين الزمن الذي تنعقد فيه الوساطة، خاصة مع إشكال تقادم الدعوى.
غير أنه و بالرجوع لقانون الإجراءات الجزائية يفهم أن الوساطة تتم مباشرتها قبل انقضاء الدعوى العمومية ويشرع فيها مباشرة عند وصول محضر الضبطية.
وسيتم التفصيل في هذه المرحلة الأخيرة بشكل أكبر في المبحث التالي.


المبحث الثاني: مزايا وعيوب الوساطة الجزائية وآثارها على الدعوى العمومية


بعد التعرف على مفهوم الوساطة الجزائية ومختلف الأحكام المتعلقة بها من أهداف وشروط وإجراءات ونطاق تطبيقها ضمن قانون 15/12 ، سنتعرف في هذا المبحث على مختلف مزاياها وعيوبها من خلال (المطلب الأول) لنصل في الأخير إلى تحديد أثارها على الدعوى العمومية (المطلب الثاني).


المطلب الأول: مزايا الوساطة الجزائية


طبق نظام الوساطة في المواد الجزائية في كندا والولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية منذ سبعينات القرن الماضي لكنه لم يلق الاستحسان والترحيب من الفقه، في بديات ظهوره بل أنكره كثير من رجال القانون وشراحه ولكن بعد ظهور نتائج إيجابية في تطبيقه ظهرت الاتجاهات المؤيدة له وتزايدت التشريعات التي اعتنقته ومنها المشرع الجزائري إثر تعديل قانون الإجراءات الجزائية بالأمر 15-02، وتضمينه لهذه الآلية في قانون 15/12 المتعلق بحماية الطفل.
ونتناول في هذا المطلب بعض مزايا تطبيق هذا النظام (الفرع الأول)، ثم التعرض إلى عيوبه في( الفرع الثاني).


الفرع الاول- فوائد ومزايا نظام الوساطة الجزائية بالنسبة للضحية:

تحقق الوساطة الجزائية للضحية شعورا بأنه أصبح فعالا في إجراءات اقتضاء حقه، وذلك أن الوسائل التقليدية في مباشرة وتحريك الدعوى العمومية كانت تنظر إليه على أنه أجنبي عنها وأن طلبه التعويض أمام المحاكم الجزائية كان استثناء ينظر إليه في أضيق الحدود، كما أن مشاركته في اتفاق الوساطة تتيح فرصة للضحية للهدوء وإرضائه معنويا.
كما تحقق الوساطة للضحية اختصارا للوقت والتكاليف، فالوساطة تعتبر كإجابة لأزمة العدالة، جاءت لتزيل الازدحام على الجهاز القضائي؛ فهذه الطرق تعتبر فعالة،إنّه من الممكن تفضيله من أجل مستقبل تنازعي غير مزدحم ، كما تمكن من تصفية جو الأعمال والعلاقات الاجتماعية، كما يمكن أن تشكل مصفاة فعالة تمنع تحول عدد معين من القضايا إلى نزاعات .
وهذا فضلا عن فرصة التواصل المباشر والحوار مع الفاعل تحت رقابة النيابة العامة ما يمكن الضحية من الاستفسار حول أسباب ارتكاب الجريمة وتخفيف الآثار النفسية على الضحية .
وتتيح الوساطة للضحية تعويض الضرر الذي أصابه بطريقة تفاوضية بعيدا عن السلطة التقديرية للقاضي الذي قد لا يقدرها تقديرا سليما.


الفرع الثاني - فوائد نظام الوساطة الجزائية بالنسبة للحدث الجانح:

سمى المشرع الجزائري الفاعل بمرتكب الأفعال المجرمة ولم يسمه متهما لأن الدعوى العمومية لم تحرك بعد، ونحن نفضل تسميته الفاعل.
وتحقق الوساطة الجزائية للفاعل غير المسبوق تفادي الاختلاط بالمجرمين ذوي السوابق ولا تؤثر الواقعة محل إجراء الوساطة على صحيفة سوابقه فلا تسجل الواقعة إذا نجح اتفاق الوساطة ولم تحرك الدعوى العمومية فبدلا من توقيع عقوبة الحبس التي أصبحت غير مجدية يتم اللجوء إلى الوساطة.
كما تسمح الوساطة الجزائية للفاعل بالمحافظة على الروابط والعلاقات التي كانت تجمعه بالضحية، وتسمح باستمرار التعامل معه، خلافا للوسائل التقليدية التي تخلق بين الطرفين جوا مشحونا من الصعب إصلاحه فيما بعد.
وتعالج الوساطة الجزائية بطء إجراءات التقاضي وتعسف بعض الضحايا في ممارسة طرق الطعن بغرض إطالة أمد النزاع وتشويه سمعة الفاعل.
الفرع الثالث - فوائد ومزايا نظام الوساطة الجزائية بالنسبة للمجتمع: تحقق الوساطة الجزائية للمجتمع فوائد كثيرة يتفادى بها سلبيات الوسائل التقليدية، ولعل أهم تلك المزايا إنهاء الاضطراب الناشئ عن الجريمة التي ارتكبها الفاعل، فكثيرا ما يندم الفاعل على ما اقترفه ولا سبيل لإصلاحه إلا تحريك الدعوى العمومية المنتهية بحكم يتضمن عقوبة أثبتت التجارب أنها غير فعالة، ولذلك تأتي الوساطة لإعادة الأمور إلى نصابها، كما تتيح الوساطة للمجتمع إصلاح الفاعل وتأهيله عن طريق جمعه بالضحية ومنحه فرصة التفاوض ليشعر بأنه لا يزال عضوا في المجتمع ويتفادى المجتمع بذلك النظرة العدائية التي ينظر بها المحكوم عليه بعقوبة ماسة بحريته إلى المجتمع.
وغني عن البيان أن نظام الوساطة الجزائية يخفف عن كاهل السلطة القضائية بحل كثير من النزاعات البسيطة التي لا تحتاج إلى أطوار محاكمة طويلة، ومصاريف باهظة ووقت طويل، فتراكم عدد القضايا أمام المحاكم الجزائية يؤثر حتى في نوعية الأحكام الصادرة فيها، ولذلك فإن الوساطة توفر كثير من الجهد والمال والوقت على السلطة القضائية.
كما تعد الوساطة وسيلة اجتماعية العلاج الآثار السلبية المترتبة على الجرائم البسيطة و تؤدي إلى توسيع وإرساء صور العدالة الرضائية التي يشارك أفراد المجتمع فيها.
ولا ينحصر دور الوساطة في علاج الآثار السلبية للجريمة، بل يتعداه إلى إعادة التوازن في العلاقات بين أفراد المجتمع من خلال إتاحة الفرصة للطرفين في اللقاء والتفاوض حول وسيلة إصلاح ما ترتب عن الجريمة من نتائج وهو ما يؤدي إلى دعم وإنشاء علاقات اجتماعية جديدة .
وهذا ما دفع بعض الفقه إلى اعتبار الوساطة وسيلة لتحقيق السلام الاجتماعي عن طريق مساعدة طرفي النزاع على البحث عن حل ودي بعيدا عن ساحات المحاكم، وهي وفق هذه النظرية تعبر عن نموذج العدالة ناعمة تهدف إلى الحفاظ على بنيان المجتمع.


المطلب الثاني :عيوب نظام الوساطة الجزائية


الفرع الأول -عيوب نظام الوساطة في شقها الموضوعي:

كغيرها من بدائل الدعوى العمومية واجهت الوساطة الجزائية بعض الانتقادات حيث رأى بعض الفقه في نظام الوساطة الجزائية تعارضا مع مبدأ الشرعية ومخالفة لقرينة البراءة.


أولا- تعارض نظام الوساطة مع مبدأ الشرعية:

يرى المنكرون لبدائل الدعوى الجزائية والمعارضون لنظام الوساطة أن الجزاء الجنائي أمر حيوي حتى يحقق المجتمع حقه في العقاب، فبدون العقوبة يتزايد حجم الظاهرة الإجرامية، ورغم كل التطورات تظل العقوبة الأداة المثالية لمكافحة الجريمة ويرون أن الوساطة تجنب الفاعل تطبيق القانون عليه وتساعده على الإفلات من العقاب. كما يرى البعض بأن الدعوى العمومية ملك للمجتمع وهي لذلك توصف بالعمومية وهي حامية النظام العام، ويترتب على ذلك نتيجة هامة هي عدم جواز الاتفاق على ما يخلفها أو التنازل عنها، والوساطة الجزائية تجعل الدعوى العمومية محلا للتراضي والتفاوض .
وأكبر دليل على ذلك هو أن معظم التشريعات حصرت نطاق الوساطة في بعض الجرائم البسيطة ومنها المشرع الجزائري الذي حصرها في الجرائم التي يمكن تقويم الضرر فيها بالمال.
ولهذا يجب في نظر هذا الجانب من الفقه أن تظل العقوبة هي جزاء الأفعال الضارة بالمجتمع وأنه لا يجوز العدول عنها بأي بديل ولو كانت الوساطة الجزائية تحقق للضحية أهدافا ذات قيمة فيجب إعلاء مصلحة المجتمع ووضع حد للإفلات من العقاب تحت مسمى التصالح أو التراضي لتفادي تحريك الدعوى العمومية.

ثانيا- تعارض نظام الوساطة مع قرينة البراءة والمبادئ الدستورية:

عند ظهور الوساطة الجزائية ظهر جانب من الفقه يعارض اعتناقها على أساس أنها مخالفة للمبادئ الدستورية المعروفة ومنها مبدأ المساواة أمام القانون، والمحاكمة العادلة، وقرينة البراءة، والوساطة الجزائية عندما يتم اتخاذها والتوصل بها إلى حل ودي، فإنها تمس بحق المتهم في محاكمة عادلة وبحقه في إثبات براءته، وذلك أن عرض الوساطة والسير في إجراءاتها قد يعني اعترافا ضمنيا منه باقتراف الوقائع وسلبه حقه في المحاكمة العادلة استنادا إلى قرينة البراءة يضيع مع تقرير الوساطة .
ففي كل الدساتير يعتبر المتهم بريئا إلى أن تثبت جهة قضائية نظامية إدانته بحكم، وهذا في حين أن اتخاذ تدابير الوساطة يختصر الطريق ويلغي مرحلة المحاكمة مباشرة إلى مرحلة اقتضاء الضحية حقه في التعويض دون حكم قضائي بل بمحضر صلح قد يظهر المتهم إلى توقيعه خوفا من تحريك الدعوى العمومية ضده.
وفي ظل الوساطة الجزائية لا يتم مراعاة حق الطفل في محاكمة عادلة أثناء مباشرة إجراءاتها فالإسراع في الإجراءات والحفاظ على حقوق الضحايا لا يمكن أن يتخذ ذريعة لإهدار هذه الحقوق.
وقد رد جانب آخر من الفقه على تلك الانتقادات بكون نظام الوساطة الجزائية يحد أساسه في نصوص قانون الإجراءات الجزائية التي تعبر عن الشرعية، فما دامت الوساطة مقننة بنصوص تشريعية من خلال قواعد مجردة فهي تضمن المساواة، ومن خلال تعزيز حق الفاعل في الاستعانة بمحام تم ضمان قرينة البراءة .
كما أن الوساطة تظل اختيارية إذ بإمكان الطفل و ممثله الشرعي رفضها إذا كان متأكدا من براءته، والنيابة العامة لا تلجأ إلى الوساطة إلا باختيار الطرفين أو بناء على طلب أحدهما، كما لا تلجأ إليها إلا إذا كانت الوقائع ثابتا.


الفرع الثاني -العيوب الإجرائية لنظام الوساطة الجزائية:

وضعت التشريعات التي اعتنقت نظام الوساطة الجزائية مجموعة من الضوابط التي تحكم اللجوء إلى الوساطة منها تحديد صفة الوسيط، ووقت اللجوء إلى الوساطة ونطاقه، أي الجرائم التي تقبل الوساطة .
غير أن المتتبع لنصوص قانون الإجراءات الجزائية يتضح له أن اتخذ موقفا من تلك النقاط شكلت في نظرنا سلبيات لهذا النظام نوجزها فيما يلي:


أولا-حول صفة الوسيط:

يقصد بالوسيط الشخص الذي يتولى مهمة التوفيق بين الضحية والطفل الفاعل ويتمثل دوره في تقريب وجهات النظر ومحاولة الإصلاح بين الطرفين بهدف تتويج ذلك في اتفاق ينهي النزاع بينهما.
في فرنسا وفي السنوات الأولى لتطبيق نظام الوساطة كان أعضاء النيابة العامة والقضاة ورجال الشرطة يقومون بمهمة الوساطة إلى أن صدر المرسوم رقم 96/305 المؤرخ في 10/04/1996 الذي منع قضاة النيابة العامة وقضاة الحكم والتحقيق من إجراء الوساطة، إذ بموجبه تم تعديل المادة 41 من قانون الإجراءات الجزائية ليمنع بمقتضاها المشرع كل من يمتهن العمل القضائي القيام بدور الوسيط فلا يجوز أن يكون الوسيط من أعضاء النيابة العامة أو القضاة أو المحامين أو الخبراء أو المحضرين أو كتاب الضبط .
ولعل المشرع الفرنسي إنما فعل ذلك لتفادي الانتقادات التي سبق وأن سقناها لما في تخويل الوساطة للنيابة العامة من إهدار لمبدأ الفصل بين السلطات.
وبذلك خول المشرع الفرنسي مهمة الوسيط لشخص خارج مهنة القضاء توكل له مهمة الوساطة وهذا ما فعله المشرع الجزائري بالنسبة لمهنة الوسيط في القضايا المدنية.
ورغم عدم صراحة المشرع الجزائري في إسناد مهمة الوسيط لوكيل الجمهورية فإنه باستقراء المواد من 37 مكرر إلى 09 من القانون15/02 والمادة 111 و112 من القانون15/12 يتضح أن دور الوسيط يقوم به وكيل الجمهورية بدليل أن محضر الاتفاق يوقع من الأطراف ومحاميهم عند الاستعانة بهم وكاتب الضبط ووكيل الجمهورية ولم يذكر النص شخص الوسيط ما يفهم منه على أن الوسيط هو وكيل الجمهورية وهو اختصاص منوط له به لوحده بالنسبة للبالغين غير أنه وبالنسبة للأحداث فيكون الوسيط إما وكيل الجمهورية أو يمكنه أن يعهد بذلك إلى ضابط الشرطة القضائية.
إن إسناد الوساطة إلى وكيل الجمهورية رغم ما يحويه من مساس بهيبة النيابة العامة وحيادها فإنه يمس بمركزها كوكيل عن المجتمع في متابعة الجناة واقتضاء حق الدولة في العقاب.
كما أن إسناد مهمة الوسيط لوكيل الجمهورية فيه مساس بمبدأ الفصل السلطات ولذلك وجب تحويل الوساطة لشخص من غير المشتغلين بالمهنة القضائية كما فعل المشرع الفرنسي في تعديل سنة 1996 أو لنقل كما فعل المشرع الجزائري في المادة 997 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية والمرسوم التنفيذي 09/100 .

ثانيا - حول وقت اللجوء إلى الوساطة:

استنادا لنص المادة 37 مكرر من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري والمادة 41/1 من قانون الإجراءات الجزائية الفرنسي فإن اللجوء إلى الوساطة يكون قبل تحريك الدعوى العمومية وبذلك فهي إجراء بديل عن الدعوى العمومية.
وفي حين لم يتضمن التشريع الجزائري نصا حول وقت اللجوء إلى الوساطة في قضايا الأحداث فإن نظيره الفرنسي قد أجاز للنيابة العامة أو قاضي التحقيق أو قاضي الأحداث اللجوء إلى الوساطة في أية مرحة من مراحل الدعوى العمومية.
ويكون ذلك بناءا على اقتراح من أحدهم حيث يفرض عليهم القانون تنبيه الحدث لما قام به من أفعال وأن يعرضوا عليه إصلاح الضرر الذي سببه بفعله .

ثالثا- حول الجرائم التي تجوز فيها الوساطة:

لم تحدد معظم التشريعات التي أخذت بنظام الوساطة الجزائية الجرائم التي يجوز فيها اللجوء إلى الوساطة على سبيل الحصر، وإنما ذكرت شروط اللجوء إليها وتركت الأمر للسلطة التقديرية للنيابة العامة، ومن تلك التشريعات التشريع الفرنسي، حيث تلجأ النيابة العامة لتعيين الوسيط كلما تبين لها أن القضية اكبر من أن تحفظ وأقل من أن تحدد لها جلسة محاكمة بالنظر إلى المصلحة العامة ومراعاة المصلحة المضرور والفاعل .
أما المشرع الجزائري فقد حدد في المادة 37 مكرر 2 من القانون15/02 والمادة 110 من القانون15/12 الجرائم التي يمكن اللجوء فيها للوساطة وعدد الجنح فيها بطريقة حصرية، وأجاز الوساطة في جميع المخالفات.
والمتتبع لتلك الجرائم المذكورة يتضح له أنها عبارة عن الجنح التي يجعل فيها المشرع من صفح الضحية وسيلة لوضع حد للمتابعة ومثالها جرائم السب والقذف والاعتداء على الحياة الخاصة والتهديد وغيرها من الجرائم التي يمكن تعويضها ماديا.
إن النهج الذي سلكه المشرع الجزائري في تحديده نطاق الوساطة يظهر تخوفه من هذا النظام والنظر إليه بحذر، فلولا ذلك لجعل الأمر بيد النيابة العامة تلجأ إليه كلما اقتصت الضرورة.


خـاتـمـة

من خلال ما سبق تقديمه يمكن أن نوجز النتائج المتوصل إليها على النحو التالي:


-أنه لا أثر للوساطة على الدعوى المدنية، و مفاد ذلك أنه يمكن للطفل الضحية أو ممثله الشرعي - أو ذوي حقوقه - أن يدعي مدنيا أمام المحكمة المختصة للمطالبة بالتعويض عن الضرر الذي لحق من جراء الجريمة.
-أن الوساطة تعمل على تسوية النزاعات وديا بين الخصوم و بالتالي تعمل على تخفيف العبء عن أجهزة القضاء من الكم الهائل من القضايا المعروضة عليها و التي تتميز في مجملها بالبساطة و عدم مساسها بالنظام و الأمن العامين و بالتالي تعمل على الاقتصاد في النفقات.
- أن الوساطة تساهم في نشر ثقافة التسامح و القضاء على كل أسباب الشقاق و البغضاء و بالتالي المساهمة في الحفاظ على الأمن و النظام العامين و استقرار المجتمع ككل.
وقد سجلت هذه الورقة البحثية أنه رغم الخصائص المفيدة والمميزات الناجعة التي يتميز بها نظام الوساطة فإن نصوص المواد المخصصة للوساطة في قانون الإجراءات الجزائية كانت تحتاج إلى صياغة أدق مما هي عليه ولذلك نلاحظ ما يلي:
-إن جعل الوساطة من مهام النيابة العامة فيه تقليل من هيبتها ومساس بحيادها.
-إن حصر الأفعال والجرائم التي يجوز فيها اللجوء إلى الوساطة لا سيما تحديدها بالجرائم التي يجيز فيها المشرع صفح الضحية يجعل من الوساطة تحصيل حاصل.
-إن حرية الأطراف في قبول اللجوء إلى الوساطة يستتبع حتما حرية الأطراف في قطعها وهذا ما يؤثر على أهداف الوساطة.
-أنه و بالنظر إلى ما هو واقع أمام المحاكم المختصة بنظر جرائم الأحداث نجد الكثير من العوائق و الصعوبات التي تعترض اللجوء إلى الوساطة الجزائية، إضافة إلى أن اللجوء إليها من الأطراف والثقة في نتائجها مازال محتشما، لأسباب عديدة أهمها: تحريك ومباشرة الدعوى العمومية قبل تقديم الطفل أو ممثله الشرعي أو محاميه طلب إجراء الوساطة، إضافة إلى عدم قبول الطرف المضرور في الكثير من الأحيان اللجوء للوساطة وإيجاد حل للنزاع.
-أخيرا يمكن القول أن الوساطة الجزائية لا يمكن أن تكون العلاج الشافي والشامل ضد كل الأمراض التي تعاني منها العدالة ، بل يمكن أن تُشكل حلا لأزمة الأجهزة القضائية.