بقلم ياسين عمار

الرقمنة والزمن القضائي

Pixabay_Digitalisierung

ياسين عمار: قاضي باحث بمركز الدراسات القانونية والقضائية.

لقد أخذ المشرع التونسي بأسباب الرقمنة في الإجراءات القضائية الجزائية منذ مدة وهو امر حتمه اتجاه الدولة في سياساتها التي اتضح انها اقتنعت بنجاعة الرقمنة في اعمال دواليبها سواء بين هياكلها او بين الأخيرة والمواطن. (علي كحلون، استخدام الوسائل الالكترونية الحديثة في إدارة القضاء وتنظيمه ومساهمتها في تسريع الإجراءات، مجلة القضاء والتشريع، نوفمبر صفحة، 15.) ولعل الحديث عن الرقمنة في هذا الزمن بالتحديد أملته عديد الاعتبارات منها العمل على مزيد تكريس الشفافية في عمل السلطات العمومية واتقاء شبهات الفساد كالحد من الحضور المادي لطالبي الخدمات العمومية الذي تسبب في انتشار وباء الكوفيد 19.

 

كما انه لا يخفى ما لاعتماد الرقمنة من دور في اختصار زمن الحصول على الخدمة العمومية. ولعله من الضروري الإشارة في هذا المجال الى التذمر الحاصل لدى عامة الناس من امتداد الزمن الذي يستغرقه الظفر بتلك الخدمات خاصة في الميدان القضائي، وهو امر لا يخدم العدالة اعتبارا وان تأخرها يشكل ضربا من نكرانها ويتناقض مع مفهوم المحاكمة العادلة الذي صار مبدء دستوريا (الفصل 108 من الدستور، عبد الله الهلالي، إدارة المحاكم العدلية والاستجابة لدستور 2014، مجلة القضاء والتشريع، جوان 2016، صفحة 9.) ويجعل القضاء تبعا لذلك عقبة امام الاستثمار والنمو الاقتصادي عموما.

وبالبحث عن أسباب تأخر العدالة نلفيها عديدة ومتنوعة فمنها ما هو عملي وواقعي ككثرة الملفات القضائية وتشعبها. ذلك ان طبيعة العمل القضائي تقتضي البحث والتمحيص اقتفاء لأثر الحق والاصداع به وهو ما يستدعي تدخل عدة أطراف كالخبراء والمحامين والعدول إضافة الى الأجهزة الأمنية وبعض الإدارات وذلك في سبيل تلك الغاية المنشودة.

ومن تلك الأسباب ما يتعلق بالجانب القانوني اعتبارا وان القواعد الإجرائية التي ارساها المشرع هي التي تسهم في امتداد الزمن القضائي.

ولما كان الامر كذلك، فإنه من الضروري البحث عن الرهانات التي من الممكن ان تحققها الرقمنة في محاولة لتجاوز مثل تلك العقبات حتى تصير العدالة ناجزة ومطمع كل ذي حق فيلجأ حينئذ إلى المحاكم بكل ثقة، ومن الضروري والحالة تلك تسليط الضوء على دور الرقمنة في اختزال الزمن القضائي سواء فيما يتعلق بالمسائل الخصوصية بالإجراءات الجزائية (الجزء الأول) او المدنية (الجزء الثاني) او المسائل المشتركة بينهما (الجزء الثالث) وذلك في إطار دراسة تأتي على بعض الإجراءات التي تهم المواد المذكورة.

الجزء الأول: دور الرقمنة في اختصار الآجال في الإجراءات الجزائية

ان دور الرقمنة في تحقيق الغاية المذكورة انما يتحقق من خلال اعتمادها في العديد من الاليات الإجرائية التي تمر بها الدعوى العمومية ويمكن تصنيفها الى اليات مباشرة وهي التي تهم علاقة القضاء بالمتقاضين (الفقرة الأولى) والاليات غير المباشرة وهي التي تحكم علاقة أجهزة العدالة فيما بينها. (الفقرة الثانية)

الفقرة الأولى: الرقمنة والاليات الإجرائية المباشرة

ان من اهم المبادئ التي تحكم الإجراءات القضائية التي تكرس المحاكمة العادلة هو احترام حق الدفاع الذي يتمظهر من خلال استدعاء ذا الشبهة (أ) وتخويله فرصة سماعه (ب).

أـ طريقة الاستدعاء:

الى حد كتابة هذه الاسطر فإن الاستدعاء في مادة الإجراءات الجزائية يكون في الغالب بالطريقة الإدارية رغم ان المشرع قد نص على إمكانية استدعاء المطلوب بواسطة عدل تنفيذ (الفصل 134 من مجلة الإجراءات الجزائية) دون تنصيص على إمكانية الاستدعاء الالكتروني أي بواسطة البريد الالكتروني رغم التطور الذي يشهده العالم اليوم من استعمال مكثف لهده الطريقة ومزايا هذه الوسيلة.

فالاستدعاء بهذه الطريقة سيخول الاستغناء عن جملة من التعقيدات الإدارية والتي تستوجب وقتا طويلا اذ ستتم إحالة الإذن على الكتابة التي تتولى مراسلة الجهات الأمنية والتي بدورها ستتولى إثر ذلك الاتصال بالمستدعى ثم ارجاع جذاذة الاستدعاء. وهو امر قد يتعذر تحقيقه في غالب الاحيان لقلة الامكانيات المادية والبشرية للأجهزة الامنية.

اما إذا ما تعلق الامر باستدعاء متهم بالخارج فإنه غالبا ما يتعذر التبليغ اليه، خاصة إذا لم يكن له مقر بالتراب التونسي. ومن الممكن في هذه الصورة التفكير في استدعاءه عن طريق البعثات القنصلية عن طريق مراسلتها الكترونيا وهو ما سيمكن من الاستغناء عن اجل الثلاثين يوما الوارد بالفصل 136 من مجلة الإجراءات الجزائية.

ب ـ الاستنطاق:

يقتضي استنطاق ذا الشبهة وخاصة في قضايا الموقوفين تسخير إمكانيات بشرية ومادية في سبيل نقله من سجن إيقافه الى مكتب قاضي التحقيق او المحكمة المتعهدة بالقضية مع بقاء الإمكانيات المسخرة في انتظار استكمال تلك العملية التي من الممكن ان تأخذ حيزا زمنيا طويلا. فهي لا تعرف تحديدا زمنيا، كما ان الاعوان يظلون في انتظار بقية الموقوفين اعتبارا وان نقلهم يتم جماعيا بالنظر الى محدودية الإمكانيات.

وبالنظر الى كل تلك التحديات سيشكل الاستنطاق عن بعد عاملا لاختصار الوقت المحدد لنقل الموقوفين خاصة إذا ما اخذنا بعين الاعتبار المراحل الإدارية التي تسبق أو تلحق عملية النقل تلك من ضبط وتحديد.

ولئن نص المشرع في عدة فصول على الاستنطاق عن بعد بواسطة وسائل الاتصال السمعية البصرية الحديثة وذلك في إطار مكافحة الجرائم الخطيرة والمنظمة كالإرهاب او الاتجار بالبشر الا ان تفعيل ذلك الاستنطاق وخاصة فيما يتعلق بالمحاكمات قد عرف التفعيل مؤخرا في ظل المرسوم عدد 12 لسنة 2020 المؤرخ في 27 أفريل 2020 الذي أضاف الفصل 141 مكرر لمجلة الإجراءات الجزائية.

غير ان المرسوم المذكور لم ينص على إمكانية تعميم الحضور الافتراضي للمتهم على كامل مراحل الدعوى العمومية وخاصة التتبع والتحقيق. فسحب ذلك الاجراء على المراحل المذكورة سيمكن من تقليص الزمن الذي يقتضيه نقل الموقوفين من والى المؤسسة السجنية.

كما انه وربحا للوقت خاصة في حالات الاستعجال المذكورة بالفصل 69 من مجلة الإجراءات الجزائية (وتتمثل تلك الحالات في التأكد، خطر موت، اثار على وشك الزوال..) من الممكن اللجوء الى الاستنطاق عن بعد.

الفقرة الثانية: الرقمنة والاليات الإجرائية غير المباشرة

ان الدعوى العمومية لا تهم المحكمة والمتقاضين فقط بل تتداخل فيها أطراف أخرى تعمل على تهيئتها حتى يمكن الدفع بها الى المحاكمة والتصريح بالحكم وتنفيذه. وعليه من المهم الإشارة الى ضرورة التنسيق المحكم بين جميع المتداخلين في التداعي الجزائي مع الرفع من مستوى ذلك التنسيق الى درجة اعتماد الربط البيني والتواصل الالكتروني بينها. فمن المتوجب ونحن في عصرنا هذا تغيير طرق التعامل بين أجهزة العدالة الجزائية التي لاتزال الى حد الساعة تعتمد التراسل المادي والتكاتب الورقي. (شهاب الغزواني، الوسائل الالكترونية والإجراءات، مجلة القضاء والتشريع، جويلية 2010، صفحة 147.)

أـ الاشراف على عملية الاستدعاء

يهم هذا الربط التواصل بين المحاكم وبين الأجهزة الأمنية ويهم الاستدعاء ومتابعة مئاله. إذ لا يزال الاستدعاء في المادة الجزائية محافظا على الطابع الورقي ويرسل ماديا الى مراكز الامن او عمدة المكان المتواجد به مقر سكنى المظنون فيه طبق احكام الفصل 139 من مجلة الإجراءات الجزائية.

لاشك ان طريقة العمل المذكورة تشوبها العديد من النقائص ما يبرر التفكير في تجاوزها سيما وانها معتمدة منذ ستينات القرن الماضي، وهو عهد لم يشهد ما نعرفه اليوم من تعصير لوسائل التواصل بين هياكل الدولة واعتماد الرقمنة وبالتحديد احداث منظومة في الربط الالكتروني بين المحاكم عموما والأجهزة الأمنية ما من شانه ان يختصر الزمن المخصص لإرسال الاستدعاء اليها و ييسر مراقبة مئال تلك الاستدعاءات في وقت وجيز عوض تمضية ساعات في احسن الأحوال لتبليغها كما سيجنب أعوان الأمن والعمد عناء التحول الشخصي الى المحكمة للإعلام عن مئالات تلك الاستدعاءات وما يتطلبه كل ذلك من وقت، خاصة وان لهؤلاء أعباء أخرى قد تعيقهم حتى عن تخصيص الوقت للقيام بالاستدعاء ما ينذر بخرق القانون واهدار الحقوق من ناحية وتنامي الاحكام الغيابية تبعا لذلك.

ب ـ التنسيق في تعيين المترجمين

في بعض الأحيان قد تلجأ أجهزة العدالة بصفة عامة الى مترجمين محلفين أو العالمين بإشارات صاحب الاحتياجات الخصوصية لتأمين نقل التخاطب بين الأجهزة المذكورة والشخص المستوجب للترجمة (الفصل 66 من مجلة الإجراءات الجزائية). ولا تزال الى اليوم تلك الأجهزة تعاني من فقدان للربط مع المختصين في الترجمة ويعسر واقعيا التواصل مع الأشخاص الذين لا يتقنون التخاطب بلغة الدولة التونسية بما يمدد من الزمن القضائي في سبيل الظفر بمساع خاصة وشخصية بمن يتقن ما تيسر من لغة الشخص المذكور. وتحقيقا لنجاعة العدالة وتكريسا لسرعة فصل القضايا فإنه من الضروري اللجوء الى تنظيم هذه المسألة بصفة جذرية وذلك باعتماد منظومة الكترونية تتوفر على رابط بمترجمين وخبيري الإشارات لا فقط زمن التوقيت الإداري بل حتى خارجه اعتبارا وان تتبع اثارة التتبع الجزائي لا يعترف بوقت معين.

ج ـ التنسيق مع هياكل المحاماة:

ان اعتماد الرقمنة في المنظومة القضائية لابد ان يظل وفيا لمبادئ المحاكمة العادلة عموما ولاحترام حق الدفاع خصوصا. ويشهد القانون التونسي تطورا في هذا المجال تبلور سواء من خلال توسيع حضور المحامي للدفاع عن منظوريه امام القضاء (الفصلين 69 و141 من مجلة الإجراءات الجزائية) وامام الضابطة العدلية او عبر تسخير محام في صورة عدم مقدرة المظنون فيه على ذلك خلال التوقيت الإداري او خارجه (الفصل 13 ثالثا من مجلة الإجراءات الجزائية). لذلك كان من الضروري ان تكون المحاكم وحتى المراكز الأمنية في تواصل مستمر مع هياكل المحاماة وبالتالي احداث منظومة ربط بيني بين كل تلك الأجهزة اما لتكليف محام او للتواصل معه خاصة وانه يعسر ذلك خارج توقيت العمل العادية للمرافق العمومية ما يؤثر سلبا على الحريات وعلى العدالة عموما. وعادة ما يحتكم المحامي الى بعض الوثائق التي من الممكن ان توضح بعض المسائل بما يجنب منوبه العديد من الإجراءات الخطيرة كالإيقاف. (خاصة بالنسبة للمفتش عنهم من اجل الشيكات مثلا.)

الجزء الثاني دور الرقمنة في اختصار الآجال في الإجراءات المدنية

ان المتأمل في النصوص القانونية التي تحكم الإجراءات المدنية يلاحظ انعدام حضور اعتماد الرقمنة او بوادر الاعتراف بها في التقاضي المدني على خلاف القوانين الموضوعية التي تهم المادة المدنية (كالتنقيح المدخل على مجلة الالتزامات والعقود بموجب القانون عدد 57 لسنة 2000 المؤرخ في 13 جوان 2000...) او التي تهم الإجراءات الجزائية فلقد أحدث المشرع نظاما قانونيا للمحاكمة عن بعد كما أقحم السوار الالكتروني في المادة الجزائية. وان كان هذين الاجراءين الأخيرين قد تم اتخاذهما تحت ضغط انتشار وباء الكوفيد 19 فإن هذا المعطى من شانه تبرير التعامل الالكتروني في جميع أصناف المحاكمات. كما ان اعتماد الرقمنة في القضايا المدنية سوف يكون أيسر حتى من المادة الجزائية اعتبارا وان حضور المتقاضين غير ضروري على خلاف المادة الجزائية. ولا مجال لاعتماد المحاكمات عن بعد بما يتوجب معه تهيئة فضاء خاص كما هو معمول بالنسبة للسجون بموجب المرسوم عدد 12 لسنة 2020 المؤرخ في 27 أفريل 2020. ومن المهم دراسة تأثير اعتماد الرقمنة على تسريع بعض الإجراءات الأساسية في المادة المدنية منها الاستدعاء (الفقرة الأولى) و(النشر الالكتروني للدعاوى (الفقرة الثانية) وتبادل التقارير (الفقرة الثالثة) إضافة الى (التصريح بالقرارات القضائية).

الفقرة الأولى: الاستدعاء

يعتبر الاستدعاء من أهم ركائز الإجراءات في المادة المدنية وتعترض عملية تبليغه للمدعى عليه بعض الصعوبات التي تؤثر على الزمن القضائي وتجعله ممتدا. ومن الممكن في هذا الخصوص التفكير في إمكانية تبليغه عن طريق وسائل الاتصال الحديثة وخاصة فيما يتعلق بالمدعى عليه الذي يقيم خارج التراب الوطني سواء كان استدعاؤه عن طريق الفصل 9 مجلة المرافعات المدنية والتجارية او عن طريق القنوات الدبلوماسية في إطار الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالتعاون القضائي. ومن الواضح ان هذين الطريقتين من الاستدعاء تستغرق وقتا طويلا قد يصل عدة أشهر لاستكمالها. وفي القابل يقع انتظار مئالها للمرور الى المرحلة الموالية في التداعي ما من شأنه تعطيل مصالح المتقاضين بشكل صارخ. فمثلا وبخصوص الاحوال الشخصية فإن حل الرابطة الزوجية التي لها ارتباط بالخارج بموجب قضية في الطلاق تظل حبيسة انتظار مئال ذلك التبليغ وقد تبين من خلال التطبيقات القضائية عدم جدواها وتعلق الحالة الشخصية للمتقاضين بما يحرمهم من فرصة إعادة الزواج.

اما باعتماد الرقمنة فإن الحيز الزمني سيختصر حتما ولن يطول امد التبليغ للمطلوبين المقيمين بالخارج، غير ان الاشكال في هذه الصورة يتعلق بإعادة النظر في النصوص الوطنية والدولية والمتعلقة بطرق الاستدعاء وامده.

الفقرة الثانية: النشر الالكتروني للدعاوى

لايزال رفع الدعوى القضائية يخضع للطابع الورقي المادي إضافة الى الاتصال المباشر بموظفي المحاكم وهو امر يستغرق وقتا طويلا نسبيا خاصة إذا ما قارنا إمكانية رفع الدعاوى المدنية بواسطة الوسائل الحديثة للاتصالات (شهاب الغزواني، المرجع السابق، صفحة 149) خاصة في القضايا التي ينوب فيها محام. ويقتضي اعتماد الوسائل الحديثة في نشر القضايا تجهيز المحاكم ببنية تحتية لذلك الغرض وتكوينا للموظفين العاملين بالمحاكم إضافة الى تطوير المنظومة القانونية المتعلقة بهذه المرحلة من مراحل التقاضي المدني. (علي كحلون، المرجع السابق، صفحة 19 و20)

الفقرة الثالثة: التبادل الالكتروني للتقارير

ان التبادل الالكتروني للتقارير بين محامي أطراف الدعوى المدنية او بينهم وبين المحكمة سيحتم اختصار الزمن المخصص لذلك مقارنة بما هو معمول به الى حد هذه الساعة وهو ما يجنب المحامين عناء التحول الى المحكمة او الى الاتصال المادي بمحامي الطرف الاخر لعرض التقارير. وهذا التوجه رغم مزاياه المتعلقة بالسرعة وترك الأثر الكتابي ورغم انعدام المانع القانوني امام اعتماده ما يمنع العمل به (شهاب الغزواني، المرجع السابق، صفحة 148) الا انه لا يعمل به صفة عامة في الواقع القضائي التونسي.

الفقرة الرابعة: التصريح الالكتروني

لئن اقر المشرع إمكانية التصريح بالأحكام عن طريق وسائل الاتصال السمعي البصري الحديثة في المادة الجزائية الا ان التصريح بالقرارات الوقتية والاحكام في المادة المدنية لا يزال يتخذ شكلا ورقيا ماديا. فللاطلاع على فحوى تلك القرارات لابد من الاتصال المباشر بكتابة المحكمة. أما إذا استوجب ذلك الاطلاع تصفح الدفاتر فإنه من الممكن انتظار طابور من السائلين عن التصريح امام مكاتب موظفي المحكمة وهو امر يستغرق وقتا طويلا نسبيا إذا ما أنزلنا هذه الحقيقة في زمننا الحاضر.

وستمكن الرقمنة في هذا الإطار من تجنب تلك المساوئ ومن الممكن الاطلاع على التصريح عن بعد بواسطة نشره بصفحة المحكمة مثلا، دون تحمل مشاق وتكاليف التنقل الى المحاكم او إضاعة وقت في تصفح سجلات قد تبلى بمفعول الاستعمال.

الجزء الثالث: الرقمنة في المسائل الإجرائية المشتركة

إن اهم عامل يتسبب في إطالة امد البت في القضايا هو تداخل عدة أجهزة في العمل القضائي فقد تحتاج المحكمة في إطار البت في قضية معينة وثائق معينة تم إصدارها سواء من محكمة أخرى (الفقرة الأولى) او إدارة معينة (الفقرة الثانية). كما يستدعي الفصل في النزاع القضائي الجزائي او المدني الالتجاء الى اهل الخبرة (الفقرة الثالثة). وسيمكن الربط البيني بين المحكمة ومختلف الهياكل المذكورة من سرعة البت في النزاع واضفاء النجاعة المطلوبة على الخدمة القضائية في سبيل الظفر بحكم قضائي في زمن معقول. غير ان اعتماد الرقمنة سوف لن يتوقف عند هذا المستوى بالتأمل في مسار الإجراءات، إذ يمكن ان يتم الطعن في الاحكام القضائية بما يفتح الباب مجددا للنظر في النزاع القضائي ويمدد في اجل البت فيه. ولعل اعتماد الرقمنة في مجال الطعون (الفقرة الرابعة) سيختصر الآجال بما يعود بالنفع على كامل منظومة العدالة بتحقيق سرعة الفصل والنجاعة المأمولة.

الفقرة الأولى: التنسيق بين المحاكم

يشمل هذا التنسيق عديد الأوجه، منها ما يتعلق بتعهيد المحاكم ذلك ان النيابة العمومية بعد استكمال الأبحاث تتولى إحالة المظنون فيه على المحاكم ان كانت الفعلة قائمة واقعا وقانونا في حقه.

ومن المتعارف عليه ان مقر وكالة الجمهورية هو المحكمة الابتدائية وإذا كانت الاحالات على المجلس الجناحي لا تقتضي تنقلا او تراسلا اعتبارا وان المجلس المذكور يقع بنفس المحكمة، الا ان الإحالة على محاكم النواحي او تعهيد محاكم أخرى سواء من قبل النيابة العمومية او من قبل محاكم أخرى (الفصول 200، 206 و294 من مجلة الإجراءات الجزائية) قد تفصل بينها مسافات بعيدة تستدعي إمكانيات مادية وبشرية في سبيل إيصال الملفات وضبطها ما يكلف حيزا زمنيا هاما.

ومن ناحية أخرى فإن المشرع ينص على صور إجرائية تقتضي تعطيل النظر في القضية لانتظار مئال قضية أخرى لها تأثير على فصل الأولى. (الفصل 7 و132 من مجلة الإجراءات الجزائية) وفي هذا الصدد يمكن استحضار صورة المسائل الأولية أو الطعون الشكلية في قرارات دائرة الاتهام لدى محكمة التعقيب والحال ان القضية منشورة لدى الدائرة الجنائية.

وباعتماد الربط البيني بين مختلف المحاكم بقطع النظر عن درجاتها او موقعها الترابي او حتى اختصاصاتها، (عسكرية، إدارية، عدلية) سيختصر بدون أدنى ريب الزمن المخصص لعملية توجيه الملفات وادراجها كمتابعتها بما سيؤثر إيجابا على اجال التقاضي باختصارها.

الفقرة الثانية: التنسيق مع الجهات الإدارية

يتعلق هذا التنسيق بضرورة الربط البيني بين المحكمة ومختلف الإدارات التي من الممكن ان تتداخل في الدعاوى القضائية او في تبعاته كالأجهزة الأمنية من ناحية والوحدات السجنية والاصلاحيات من ناحية ثانية وإدارة الديوانة من ناحية ثالثة ولا يخفى ضرورة اعتماد الربط المذكور مع وزارة الداخلية وذلك فيما يتعلق بحالة الأشخاص من بينها السوابق، وإصدار القرارات القضائية سواء الوقتية منها كتلك المتعلقة بالإنابات القضائية والقرارات الماسة بالحرية كالاحتفاظ والايقاف التحفظي او الحكمية منها والادراج بالتفتيش العدلي الى جانب الانفتاح على التحركات الحدودية وغير ذلك من المسائل التي لا تهم الجانب الجزائي فقط بل يقتضيها البت في النزاعات المدنية بمناسبة النظر في القضايا الشخصية مثلا.

ان التواصل بين كل تلك الهياكل لا يزال يخضع الى الشكل المادي الورقي وعلى سبيل المثال تكفي الإشارة في هذا الخصوص الى الاذون الاحتفاظ. اما اعتماد الرقمنة كإحداث منظومة في الربط البيني سيختصر حتما اجل الحصول على سوابق المتهم بما يمكن من تسريع الإجراءات إضافة الى السرعة في تنفيذ القرارات القضائية دون انتظار طول امد الارسال المادي. ويظل هذا الربط عاملا حتى خارج التوقيت الإداري بما يمكن من الاطلاع الحيني على أي وضعية من قبل الجهات المذكورة دون انتظار ميقات فتح أبواب المحاكم او المراكز الأمنية.

وبالإضافة الى كل ما سبق فإنه من المهم ابراز مزايا الربط البيني بين المحاكم ووزارة العدل وذلك سواء فيما يتعلق بنشاط المحاكم وما يمكن ان يشكل ذلك النشاط من مادة لإعداد الدراسات والاحصائيات او فيما يخص مادة تسليم المجرمين (الفصلين 316 و325 من مجلة الإجراءات الجزائية).

الفقرة الثالثة: الاختبارات

من الضروري الإشارة في خصوص علاقة المحكمة بالخبراء الى دور اعتماد الرقمنة في التواصل بينهم وبين المحكمة وذلك سواء في تعهيدهم بواسطة المأموريات او في متابعة سير أعمالهم، (شهاب الغزواني، المرجع السابق، صفحة 149.) ذلك ان الواقع العملي يعرف ارسالا ماديا لمأموريات الاختبار عن طريق اتصال المتقاضين بالكتابة ثم اتصال هؤلاء بالخبير الذي بدوره سيتولى اعتماد البريد العادي في استدعاء بقية أطراف القضية في بعض الحالات التي تستدعي حضور جميع الأطراف لتلك العملية ثم يقع انتظار تحرير تقرير الاختبار وارساله للمحكمة ويتطلب كل ذلك حيزا زمنيا قد يمتد في بعض الاحالات الى أشهر حسب تشعب تلك العملية ونوع القضايا.

وبقطع النظر عن هذا المعطى الموضوعي فإن اعتماد الرقمنة في تواصل المحكمة مع الخبراء سيمكن من اختصار اجال توجيه المأمورية للخبير من ناحية ويحقق متابعة دقيقة لأعماله إضافة الى تحديد أجرته بسرعة ونجاعة خاصة وان المشرع قد نص على ضرورة تفعيل ذلك التنسيق بالفصل 102 من مجلة الإجراءات الجزائية. ولبلوغ هذه الغاية لابد من العمل على الربط البيني بين المحكمة والخبراء حتى يسهل التواصل بينهما. كما تأكد هذا الاتجاه بإقرار خبراء مختصين وفق القانون المحدث للقطب القضائي الاقتصادي والمالي والنص المطبق له المتعلق بقرار وزارة العدل المؤرخ في 06 فيفري 2018 يتعلق بفتح باب الترشح لممارسة مهام مساعد فني مختص بالقطب القضائي الاقتصادي والمالي (الرائد الرسمي عدد 12 بتاريخ 09 فيفري 2018.)

الفقرة الرابعة: الطعون الالكترونية

ان الحديث عن ممارسة الطعون لايزال يخضع للشكل الورقي المادي والحضور الجسدي لدى المحاكم، إذ لابد للمتقاضي او نائبه ان يتصل مباشرة بكتابة المحكمة ليسجل طعنه في الحكم الصادر سواء مشافهة او كتابة (يراجع في المادة الجزائية الفصول 175، 207 و 261 م ا ج و الفصل 132 وما بعده من مجلة المرافعات المدنية والتجارية بالنسبة للاستئناف والفصل 182 من مجلة المرافعات المدنية والتجارية في ما يتعلق بالتعقيب) اما اذا كان المتهم موقوفا فمن الممكن ان يسجل استئنافه من السجن الى كبير حراس السجن الذي بدوره يحيله على الجهات القضائية. (الفصل 110 من مجلة الإجراءات الجزائية) وفي المقابل فإن الكاتب يسجل ذلك الطعن بدفتر ورقي مع تسليمه الطاعن وصلا ورقيا في تلقي الطعن.

ولو ان المحاكم تحتكم للرقمنة في اعمالها لكان تلقي الطعون لا يكلف المتقاضين مشقة التحول الى المحكمة سيما إذا كانت بعيدة عن مقر سكناهم او كانوا قاطنين بالخارج. وعليه فان اعتماد الوسائل الحديثة سيقرب المحاكم من المتقاضين ولن يكلف الموظفين بالمحكمة وقتا طويلا لتسجيل الطعن وتسليم توصيل.

ان المتأمل في النصوص القانونية المتعلقة بممارسة الطعون صلب مجلة الإجراءات الجزائية لا تقف عثرة في وجه اعتماد الرقمنة ذلك ان المشرع ولئن حافظ على الاتصال المادي أي الحضور لدة كتابة المحكمة لتسجيل الطعن الا ان التصريح الشفوي او الكتابي للكتابة بممارسة الطعن من الممكن ان تستوعبه المكاتبات عن بعد باعتماد وسائل الاتصال الحديث وهو لعمري صورة من صور الكتابة بالعودة الى التنظير الحاصل بين الكتب الورقي والكتب الالكتروني. وعليه فإن اعتماد الوسائل التقنية المذكورة لن يكلف المشرع تدخلا جذريا لإعمالها صلب الإجراءات الجزائية.